البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : من يكتب التاريخ؟    قيّم
التقييم : التقييم :
( من قبل 3 أعضاء )

رأي الوراق :

 صادق السعدي 
30 - نوفمبر - 2011
 
 
   كنت ولا أزال في توق شديد للكتابة عن واقع الثقافة وموقف المثقف منذ سقوط الدولة العثمانية لكنّ المشاغل كثيرة، والخوض في مثل هذاالموضوع يحتاج الى جهد ومتابعة وحرص شديد على الجدية في طرح المسائل المهمة واحترام هذه المجالس المفتوحة لجميع الآراء باختلاف اتجاهاتها في التعبير بحرية من غير مصادرة إلا في حدود أظن الجميع قد أصبح على دراية كافية بضرورة الوقوف عندها، حتى لا تتحوّل الحرية الى فوضى، والكلام الى تهريج. ونسأل الله العصمة من زلّة اللسان.
   لم يكن خروج العرب من الهيمنة العثمانية يإرادة حرة من أبناء هذه الأمة بل جاء في ظروف خاصة أملتها شروط الحرب وقوة الحلفاء المنتصرين. كان مجرد خروج من وحل الى مستنقع وهيمنة الدول الغربية على مقدرات الامة العربية سياسيا واقتصاديا وفكريا... هيمنة جاءت في أحلك الظروف والأمة لا تزال تعيش حالة الإستلاب والتخلف الفكري والحضاري والتشوه العميق الذي أصاب العرب في هويتهم بحيث لم تعد هذه الأمة قادرة على معرفة حقيقة ما يدور من حولها وما هو السبيل للخروج من الواقع المتردي وغياب المشروع المدروس والواضح بعد أن تحول المثقف ورجل الدين الى مجرد وظيفة يقررها السلطان لتمرير ما يريد من سياسة وما يحتاج من فتوى تصب في ديمومة واقع نخرت فيه سوسة الفساد في كل مفصل من مفاصله.
         وما يدفعني للحديث عن قرن من الزمان مضى، هو ما أراه وما أسمعه وما أقرأه في هذه الأيام من كلام شبيه بما قرأناه قبل عقود من الزمن على لسان مثقفين كبار كانوا رواد الثقافة العربية في عصرهم ولا زالوا يحتفظون بمكانتهم الكبيرة في خارطة الثقافة العربية. ذلك ما حدث بعد رحيل عبد الناصر وسياسة الإنفتاح في عهد السادات وما عرف بعد ذلك بتصفية التركة الناصرية وحقبة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. عاد عندها كما زعموا الوعي المغيّب بفعل القهر والخوف وتكميم أفواه المثقفين بكل الأشكال ووسائل القمع المادي والمعنوي. فقد عاد الوعي عند علم من أعلام الثقافة العربية مثل توفيق الحكيم بعد غياب وترحيل قسري، وكذلك زعم علم آخر مثل طه حسين الذي وصفه البعض بالذئب الذي كانت تخشى منه الخراف في العهد الملكي، فأصبح في زمن الجمهورية حملا تتخطاه الإبل! وهي حالة تكاد تكون عامة، فالحاكم الذي لا يخيف أحدا يجب أن لا يخاف منه أحد! ومن لا يركب غيره يُركب. منطق خطير وحقير، لكنه كان وسوف يبقى مادام في الإنسان حيوان لم ينقرض بعد!
    إذا كان هذا هو حال المثقف بكل ما يمتلك من رصيد فكري وثقافي وقدرة فائقة على المناورة، وخبرة طويلة في مقارعة الخصوم وتجاوز الصعاب، وقبل كل ذلك مسؤوليته الأخلاقية وتاريخه الذي بناه بالعرق والسهر وما حباه الله دون غيره من عباده بالذكاء والألمعية والموهبة الخلاقة. كيف إذن ترجّحت كفة الحاكم الغاشم على كفة المثقف النابه، والعبقري الفذ. إذا كان هذا هو حال من يفترض أنهم بناة الفكر وصانعي أقدار الشعوب، والفيصل في الحكم عندما تسقط الموازين، وتتداخل المفاهيم، وتضيع المقاييس في ترجيح الأحكام ويقول كل بما يراه بعين الرضا، أو بعين السخط أوالجهل والحماقة.
   ونشير هنا ليس دفاعا عن موقف المثقف، بقدرما هو محاولة لفهم دوافع البعض ممن عرفوا بتشددهم في المواقف والقضايا الكبرى في الفكروالثقافة والسياسة والدين وغيرها، ثم يتحوّل ذلك التمرد والتحدي الى نكوص ومداهنة في موقف المثقف من السلطة الجديدة التي تحكم قبضتها في الحكم وتضيّق مساحة الحرية التي كان يتمتع بها في ظل السلطة التي طالما وجه اليها سهام نقده بكل شراسة وقسوة. ذلك يعود في تصوّري الى عبورهذه النخبة من المثقفين حالة التمرد التي يمرّ بها في العادة كل مثقف في مرحلة أو أكثر من تجاربهم التي تتسم بحدة الخطاب، والثورية في الدعوة لمعالجة الأوضاع الإجتماعية والسياسية والدينية، مما يدفع الى الصدام لا محالة بالأفكار السائدة التي يتوخّى صانع القرار الى بقاء الأحوال كما هي خوفا من جديد يزلزل أرضية ثابتة، ويؤدي الى مفاسد أعظم من منافع محتملة يكون أول ضحاياها صاحب القرار نفسه! ولعلّ قدر بعض المثقفين أن الثورات والإنتفاضات الكبيرة تحدث في مرحلة يكون فيها المثقف قد استهلك طاقة التمرد في داخله، وأكسبته التجارب والنضج الفكري قدرة على ضبط النفس ومراجعة التجارب السابقة والنقد الذاتي، ووضع الأشياء في ميزان الربح والخسارة. وقد يدفع المثقف نتيجة ذلك ثمنا باهضا من سمعته وتاريخه .هذا ما حدث بعد الثورات الكبرى في مجال السياسة، كما حدث في تجارب التجديد في الادب والفن والفلسفة...   
   هل تستطيع الجماهير بالفعل كما يراهن الكثيرون على صنع التاريخ الشعبي بدلا من المثقف والمنظرون والحكماء وكتبة تاريخ القادة والسلاطين؟ على ماذا تقوم هذه المراهنة؟ إن مسؤولية المثقف كبيرة وخطيرة في كل ما يحدث في هذه الأيام من سجالات ورهانات وركوب الموجة والخفة التي لا تليق بالكلمة الحرة النزيهة الصادقة. هذه المسؤولية تجعل المثقف مرة أخرى في مفترق طرق، وفي خيارات ليست بالسهلة عندما تسقط جميع الابعاد، ويكون ما يحدث بالفعل فوق كل التصورات وتوقعات السياسيين فضلا عن المثقف الذي يستغرقه تاريخ الماضي في غياب القدرة على قراءة محايدة واعية، وعجز في الغالب عن المعايشة الحقة لمشاكل الواقع المعاصر مع مرونة في فهم التحولات الكبرى والصدمات التي لا تتفق بطبيعتها مع التوجه العام لطبيعة المثقف التي هي غالبا ما تكون منحصرة في إطار ثقافة دينية مذهبية أو ثقافة في ظاهرها حرة منفتحة، وفي باطنها مستوردة من مناشيء خارجية متعددة، يصعب إن لم نقل يستحيل في ظلها مواجهة مثل هذا الظروف والمتغيّرات غير المتوقعة ووضع التصورات أو الحلول المناسبة لها من غير السقوط في فخ التسرع والخفّة الفكرية ومجارات الرأي العام وركوب العربة مع الآخرين في قطار لا يعرف أحد من ضرب سكّته، وما هي وجهته.
وللحديث صلة...
شاهد التعليقات الأخرى حول هذا الموضوع
أضف تعليقك
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
وعلى المحصنات جرّ الذيول    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :
 
 
   إحباط كبير يجتاحني هذه الايام، مما يجعل نفس الانسان تضيق بالاشياء من حولها، ويتضاعف هذا الشعور بالاحباط والخيبة عندما نكتشف أن النخبة السياسية والثقافية والفكرية على السواء هي المسؤولة عن تشكيل هذا الواقع وصياغة أحداثه المفجعة. وكأننا كتب علينا أن ندور في حلقة بدايتها هي نهايتها. حالة أقرب الى العبث. لوكان الشاعر خليل حاوي بيننا الآن، لفكر مليّا قبل أن يقرر الإنتحار بدافع اليأس والإحباط. فهل نحن بحاجة دائمة لعدو خارجي حتى في مبررات الموت المجّاني؟
   كانت إسرائيل قضية العرب الكبرى لأكثر من سبعين عاما. ما هي قضيتنا اليوم وقد أصبحنا مكشوفين لا تسترنا حتى ورقة التوت المتمثلة بالقضية الكبرى؟! أي بؤس هذا وأي انهيار وأنت ترى جزمة الجنود البواسل على جسد المرأة بعد أن تعرّت في الشارع من الضرب والسحل؟! واليمن في طريقها الى صومال آخر كما يشهد بذلك الواقع، و تؤكده التقاريرالخارجية. وليبيا تحكمها المليشيات ووضعها غامض. والعراق كما نشاهد وكفى! وكذلك الحال في سوريا الذبيحة.
   والأزهر يأسف لماذا يحدث! لا يجوز بالطبع أن نحمل وزر مايحدث على جهة بعينها، فنقول كما قال بدوي عن علماء الأزهر بأنهم زمرة من المنافقين. ماذا بقي لنا إذن؟ فإذا كان سعد زغلول في نظره صاحب تاريخ مشبوه مع الإنكليز، وحزب الوفد جهلة وأنصاف متعلمين، ومحمد عبده صديق اللورد كريمرالذي أساء للمصريين، والذي ظن التجديد في لبس القبعة! وجمال الدين الأفغاني رجل لبس عباءة الدين لأغراض سياسية... وبمن نستجير؟
   والمشكلة مع الأزهر قديمة فقد ذكر طه حسين أن علماء الأزهر كانوا قد حضروا مؤتمر الدعوة والإرشاد بمناسبة مرور مائة عام على إنشائه برئاسة رشيد رضا. فدارت كؤوس الخمر في المؤتمر. صحيح أن شيوخ الأزهر لم يشربوا، إلا أنهم حضروا مجلسا يرتكب فيه الحرام. فيكتب طه حسين قصيدة يهجو فيها الشيوخ، فيقرر شيخ الأزهر وقتها- سليم البشري- أن يرسب طه حسين في الإمتحان.
   وكثير من أصحاب الفكر والمثقفين ما زالوا في دائرة الجدل العقيم والإتجاه المعاكس الذي يروجه الإعلام النفطي لغايات أبعد ماتكون عن طلب الحق بالإستماع الى وجهات النظر المختلفة. الملفت أن من أفضل ما كتبه الرواد وأعلام الثقافة العربية كان في المعارك الأدبية التي حفلت بالتناقضات والغرائب والكيد، فضلا عن التجريح والتسقيط المتبادل بين الأعلام. غريب هذا الطبع البشري. كم نشعر بالمتعة ونحن نقرأ تلك الكتابات! نبدأ من أول صفحة من الكتاب، فنجد أنفسنا مشدودين بقوة الى مواصلة القراءة حتى الوصول الى الصفحة الأخيرة منه. لماذا إذن هذا الإعتراض أو الهجوم على ماكان يحدث بين هذه النخبة من أعلام الثقافة والفكر؟! ربما لأننا نبحث عن مثال لسنا قادرين على تحقيقه في ذواتنا المعلولة؟ أم أننا نريد أن نحمّل من نحب ما لا تحتمله طبائع الأشياء؟ ومزاج الأديب وحال المثقف عموما لا يحكمه ضابط إلا ماندر.
  قد بات سيفي في مجال وشاحها       ومدامعي تجري على خدّيها
صادق السعدي
21 - ديسمبر - 2011
أضف تعليقك