أنبوشة قديمة ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
(( صَدَاقَةٌ بِلا مَآرِبَ )) بي إلى القلمِ حنيٌن عجيبٌ عارمٌ لا أعرفُ مأتاه ولا شَرْواه ، كأني وإياه عاشقانِ يكادانِ يحترقانِ وَجْدًا وصبابةً ، فلا ساعةَ آنَسُ لقلبي ، وأسعدُ لنفسي ، وأملأ لجوانحي غبطةً وسرورًا ؛= من ساعةٍ أفضي فيها إلى قلمي ؛ أبثُّه آمالي وآلامي وآرابي وأوصابي ، صديقٌ مخلصٌ وَفِيٌّ ، لا يضجر مني ، ولا يَمَلُّ منادمتي ، ولا أتحاشى أن أنُثَّ له أسراري تحاشِيَّ من غيره ، ولا أخشى منه تَعْذالا أو ملامةً ، فمن لي بصديقٍ مثله ؟! ، ولعلَّك لا تُكَذِّبني إن قلت لك : إني لأنتفضُ في سريري -ولا انتفاضَ سليمٍ - من هَمٍّ يُؤَرِّقني ، أو طَيْفٍ يُلِمُّ بي ، أو شَوْقٍ يَشُبُّ في فؤادي ، فأهرعُ إلى القلمِ والدفترِ ؛ فتذهبُ وحشتي ، ويتسلَّلُ بَرْدُ الطمأنينةِ إلى قلبي ، وتهدأُ العاصفةُ التي ثارت بين أضلاعي ،= ولو لم أَخُطَّ حرفًا ، ولو استغلقت عليَّ كُلُّ مسالكِ القولِ ، بَيْدَ أني أشعُرُ مع القلمِ بالسكينةِ تغشانِي ، وبجلالِ الإلهامِ يَغْمُرُ طوايا نفسي ، وبفيضِ الأحاسيسِ والمشاعرِ يتدَفَّقُ في عروقي ، فأنتشي نشوةً كبرى ، وترفرف روحي ضاحكةً مبتهجةً - كما يرفرفُ الشُّحْرُور في رَوْضِه جَذِلاً غَرِدًا . إِنَّ كل كلمةٍ أكتبها بالقلم هي عندي أشبَهُ بالغنيمةِ التي أغنَمُها بعد معركةِ اللَّفْظِ والمعنى ، فلا تزالُ الفكرةُ تجولُ في ذهني ، والشعورُ يَثِبُ في قلبي ، واللَّفْظُ يترَدَّدُ في فمي ؛= حتى تخرجَ الكلمةُ كرشْفةِ الماءِ الْخَصِرِ يجدها من أنهكه الأوامُ واللُّوبُ ، فأسرعُ بالقلم إلى تَقْيِيدها كَيْما لا تذهبَ مِنِّي هذهِ الغنيمةُ . إن كُلَّ كلمةٍ أكتبها بالقلم هي عندي الذكرى الغاليةُ تفوحُ من أعطافِ ماضِيَّ ، والطللُ الذي تطالعني برؤياه عهودٌ جميلةٌ خَلَتْ ، كأنما الكلمةُ هي الجزءُ الباقي مني الذي لَمْ تَدْفِنْهُ الأيامُ . إني أحملُ القلمَ وكأني من زَهْوي به القائدُ الصنديدُ يَخْتالُ بسيفه المشهورِ في ساحة القتالِ ، فبالقلمِ زَهْوِي وفَخْري ، وبه اعتزازي واعتدادي ، وكأنَّهُ الرَّايةُ الْخَفَّاقَةُ أُلَوِّحُ بِهَا في السماءِ . ولأنَّ القلمَ صديقي الذي لا أعدلُ به سواه : لا أملكُ أَنْ أُكْرِهَهُ أن يكتبَ ما لا يريد ، أو أَدْفَعَه إلى أن يجتلبَ الكلامَ اجتلابًا ، وإنما أنا مُرْخٍ له العنانَ فيكتبُ ما يشتهي أن يكتبَه ؛ سعيدًا به ، راضِيًا عنه ، معتَزًّا بأن كتبه ، ويذَرُ ما يذَرُ مِمَّا لا يغتبطُ بكتابته ، ولست أبدًا أجنحُ إلى شَهْوةٍ في نفسي أو في غيري ؛ فأتمالأُ معها على قلمي ، إِنَّ قلمي كالطِّفْلِ الْمُرَفَّهِ الذي ينامُ متى يَحْلُو له ، ويستيقظُ أيضًا عندما يَوَدُّ الاستيقاظَ ، من غير أن يقلقه شَيْءٌ في مضجعِه فيحمله على الاستيقاظِ مُرْغَمًا . فالكتابةُ - أيُّها الكُتَّابُ الأعزاء - ليست حرفةً تُمْتَهَنُ ، وليس القلمُ أداةً للكاتب شأنُهَا شأنُ المطرقةِ والإزميرِ للنَّجَّارِ ، إِنَّ الكتابةَ ثَمَرةُ الفكرِ والشعورِ ، وإنَّ القلمَ لَهُوَ الغصنُ الذي يَحْمِلُ هذهِ الثمرةَ ، فلا تعتلوا الأقلام إلى الكتابة عَتْلاً ، ولا تَجْهَدُوا أن تحرزوا الأفكارَ قَسْرًا وكَرْهًا ؛ تريدون بذلك أن تمتلِئَ الأوراقُ بتوقيعاتِكم ، وتُتْخَمَ بأسمائِكُم العريضةِ ، وإنما أنتم بذلك في سفاهةِ من يريد أن تُنْبِتَ له الشجرةُ كُلَّ يومٍ ثَمَرَةً جديدةً ، وإنما هي ثمارٌ خبيثةٌ غيرُ ناضجةٍ ، وإنما تَحْفِرُ أقلامُكم بذلك لِمَجْدِكُم الْقَبْرَ . [ بعد منتصف ليلة الاثنين . 14 / 1 / 1427 ] |