ذهب الحصان وبقيت العربة ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
بعض الدول لا ترى أهمية كبيرة بالنسبة لتاريخها البعيد. فالحاضر بالنسبة إليها هو الأهم وهو ما يجب الإلتفات إليه وتوجيه العناية له والبحث عن سبل تطوير الحياة التي يعيشها الفرد في واقعه ومفردات حياته اليومية. فالتاريخ كما يرونه هو ما يصفه ديورات: من إملاء الهوى، وأكثره ظنون. لكن هل بالإمكان الحديث عن الواقع منفصلا عن التاريخ؟ الحديث عن الثورة مثلا وانتفاضة الشعوب. هل ما يقع اليوم يمكن فصله عما حدث قبل ذلك من تحوّلات كبرى في المنطقة العربية من نتائجها ما نشهده الآن من انهيار ليس فقط في الجانب السياسي، إنما هناك تداعي هائل وكبير لمنظومة القيم الإجتماعية والفكرية والدينية والأخلاقية. ولست بصدد رصد وتقييم واقع ما يجري من متغيّرات متسارعة من الصعب التكهّن إن كانت إيجابية أم سلبية بالنسبة للوضع العربي أو الإسلامي في المستقبل القريب أو البعيد. هناك مدرستان مختلفتان في رؤية المسار التاريخي للإمم والشعوب ومن يقف وراء التحوّلات الفارقة والمدهشة في التاريخ. البعض يرى أن العبقرية والنبوغ الفردي هو الذي يوجّه التاريخ ويصنع مساره في هذا الإتجاه أو ذاك، في الجانب السياسي كما في الجوانب الأخرى من الحياة الإجتماعية والدينية والفكرية والإقتصادية. الفرد هو القطب والمركز الذي يجذب الأشياء فتنقاد إليه وتدور في فلكه. ويرى البعض الآخر أن القضية أشد تعقيدا من هذا التصور الساذج في نظرته الأحادية للتاريخ. الفرد فيه مجرد جزئية في منظومة كليّة مترابطة تصنعها عوامل متعددة إجتماعية واقتصادية ودينية وأخلاقية ونفسية، وانتفاضات طارئة غير محسوبة بدقة لكنها لا تخرج من السياق العام لحركة التغيّر المنطقي للإشياء. لو كانت تفاحة نيوتن الشهيرة – على فرض الأخذ بها – قد سقطت على رأس فلاح هل كانت تعني له شيئا يستحق التعليل أكثر من كونها ثمرة كانت قد نضجت فسقطت. لعلّ بالصدفة وقف على الغصن طائر صغير، أو هبت ريح خفيفة فعجّلت في االسقوط. لم تكن سببا، إنما الصدفة التي صاحبت السبب الحقيقي. هل كان المواطن البسيط صاحب العربة مثلا، سببا في تفجير الثورات في المنطقة العربية؟ هل أحرق الرجل نفسه لإحداث ثورة تطيح بالنظام، وتهزّ عروش أنظمة أخرى؟ أم هو اختيار الموت وسيلة للتخلص من القهر والفقر والهروب من سؤال من ينتظر أن يأتي له بالقوت في المساء؟ من الطريف ما حدث لأخي قبل أكثر من ثلاثين عاما. خرج من البيت ليلا، وكانت الريح تعصف في الزقاق الضيّق. بعد دقائق معدودة سمعنا الصراخ: حرامي، حرامي! خرج أهل المحلة- الزقاق- ماذا حدث! قال جارنا وهو في حالة ذعر شديد: رأيته، رجلا طويلا، ضخم الجثة، يغطي اللثام نصف وجهه وعيناه تبرقان بشكل مخيف، بيده طبر عريض. كيف اختفى لا أدري والله؟! كأن الريح قد حملته الى السماء! عاد أخي بعد ساعة تقريبا. قلنا له أين كنت؟ سمعت بقصة الحرامي الذي أراد السطو على بيت جارنا؟ الناس خائفون أن يكون ( أبو طبر) قد عاد مرّة أخرى! قال أخي: أنا الحرامي!! وبادرنا ونحن لانزال في حالة الدهشة وعدم التصديق: خرجت من البيت، ماهي إلا خطوات حتى وجدت الريح قد ضربت بعنف باب جارنا سيد سلطان، فانفتح الباب محدثا دويّا هائلا. ثم سمعت الصراخ: حرامي، حرامي! خفت وارتبكت، وبلا شعور أطلقت ساقي في اتجاه الريح التي حملتني معها وقذفت بي خارج الزقاق. لم نجرأ بعد ذلك أن نخبر جارنا بحقيقة ما وقع، مع أن المسألة كانت بسيطة جدا لا تسبب أي مشكلة في حالة معرفة حقيقة ما وقع. ربما لأننا خشينا أن يكذبنا جارنا ويصرّ على صحة ما شاهد، أو أن يتهم أخي أنه بالفعل من جماعة ( أبو طبر). رحل بوعزيزي رحمه الله، وبقيت العربة في سوق المزاد تبحث عن قنّاصي الفرص، ومن يركبها أولا! وللحديث صلة... |