الهرمنيوطيقا من المصطلهات القديمة المستعملة في مجال تفسير نصوص الكتاب المقدس عند اليهود. ويعني جملة القواعد والمعايير التي يجب على المفسر انتهاجها أو اتباعها لفهم النصوص الدينية. وتقوم هذه القواعد على أساس تناول النص بوصفه متعدد الوجوه، ومنفتحا في دلالاته على معان لا حصر لها، مستفادة من رمزية النص، دون الخضوع لحرفيّته وظواهر معانيه.
انتقل استعمال هذا المصطلح من مجال الدراسات اللاهوتية، الى حقول معرفية متعدد، مثل علم التاريخ وعلم الاجتماع، والفلسفة والنقد الادبي... في محاولة لاكتشاف المعاني الخفية والمستورة في باطن النص.
وهذا اللون من الدراسة كان متزامنا مع حركة النهضة والكشوفات التي عرفها الغرب في مجالات العلوم وحقول المعرفة المختلفة؛ من اكتشاف كولمبس لأمريكا، وظهور فرنسيس بيكون يدعو الى نظرة جديدة في الفلسفة وإحياء العلوم التجريبية، ومنهج ديكارت في الشك وأسلوبه الخاص في تناول المنطق.
وتفسير النصوص بطريقة الرمز والحكاية قديم؛ وكان أشهر من استعملها في تأويل نص الكتاب المقدس هو الفيلسوف الاسكندري فلو أو فيلون. وكانت وفاته سنة 50 بعد الميلاد. ينتمي الى أسرة يهودية كانت تعيش في الاسكندرية، المدينة التي كانت وقتها واحدة من أهم مراكز الفكر والفلسفة في العالم القديم.
كانت المخاطر تهدد كيان اليهود ومستقبل ديانتهم من الخارج والداخل، فالرومان من جهة والصراع العقائدي بين اليهود أنفسهم من جهة أخرى، فقد انقسموا الى طوائف عديدة كان أهمها وأشهرها هم الفريسيون-بتشديد الراء- والصدوقيون. وهؤلاء كانوا ممن يتمسكون بالنص المكتوب، ورفض الشروح والتقاليد والنصوص الشفاهية التي يعمل بها مخالفوهم من الفريسيين. والفريسيون، معناه المنعزلون أو المنفصلون، أو المعتزلة. والتسمية تعود الى انطواء هذه الطائفة على نفسها، قبل ان تتمكن من مدّ نفوذها بين أوساط عامة اليهود. لم يكن هؤلاء يحفلون بحرفيّة النص، بل اتجهوا الى روحه، يستنطقون باطنه. ولهم يعود الفضل في إخراج التوراة من طابعها العنصري الضّيق بوصفها خطاب الله لبني إسرائيل خاصة ، الى خطاب لجميع الخلق بواسطة التأويل. ولا يفوتنا في هذا المقام التنبيه الى دلالة هذه التسمية ووجه الشبه بينها وبين اللفظ الذي يطلق على تلك الفرقة الإسلامية صاحبة الإتجاه العقلي وإعمال التأويل في نصوص الشريعة الإسلامية، وأثر الصراع الذي نشب بين القائلين بالعقل والقائلين بالنقل على اختلاف درجاتهم، ودوره في إطلاق هذه التسمية عليهم. فهل هو تعريض بتلك الفرقة التي أرادت – كما يقول كثير من أهل النقل المخالفين لهم - تأويل النصوص بفعل مؤثر خارجي دخيل لا يمت الى الاسلام بصلة. احتمال نطرحه ولا نؤكّده. وتكون قصّة واصل بن عطاء مع الحسن البصري لا أساس لها.
كان فيلو يعيش في هذه الفترة الحرجة والخطيرة من تاريخ اليهود، فعمد الى نصوص التوراة، وراح يفسّرها بطريق الرمز والحكاية، وتأويل ما فيها من تشبيه وتجسيم فاضح، مستعملا في ذلك ثقافته الواسعة، ومعرفته المتعمّقة بالثراث اليهودي، والفلسفة بمذاهبها المختلفة، من فيثاغورية، وأفلاطونية، ورواقية، وفلسفة أرسطو والمشّائين من اتباعه. فزعم أن التوراة تشتمل على جميع الحقائق في هذا العالم، الدينية والدنيوية، وما نحتاجه هو فقط فهم هذه النصوص فهما صحيحا بالنظر الى باطن النص، والكشف عن أسراره ورموزه، لان ظاهر هذه النصوص خادع، ولا يدل على معناه المستور خلف حجاب الالفاظ والعبارات التي هي في ظاهرها خطاب لعامة الناس من أهل الغفلة لتقريب معاني النصوص الى أفهامهم، وليس للخواص من أهل النظر والبحث العقلي.
فإذا قالت التوراة إنّ السماء قد خلقت قبل الارض، فهذا رمز للعقل وفضله وأسبقيّته على الحس. كما ان إبراهيم رمز للعلم، وإسحاق رمز للطبيعة، ويعقوب رمز للزهد. وعلاقة الله بموجودات هذا العالم تقوم على أساس الوسائط والفيض في نظام من العلّية والمعلوليّة.
وإذا كانت الافلاطونية قد تركت أثرا واضحا في الفلسفة الإسلامية، فإن محاولة فيلون التوفيق بين الفلسفة والدين لا تقل أهميّة من ناحية تأثيرها في النزعة العقلية عند المسلمين، من معتزلة أو غيرهم من علماء الكلام في الاسلام. ولكي يعمق الصلة بين الدين والفلسفة، ويقرّب المسافة، ذهب فيلون الى أن كل الافكار العظيمة التي نطق بها الفلاسفة، كانت من وحي التوراة وكلام موسى.
وسيظهر بعد ذلك تأثير هذه النزعة في الشهرستاني المتكلم الأشعري، في كتابه المعروف بالملل والنحل. والذي أرّخ فيه لمسيرة الفلسفة وتطوّر الفكر الديني الى عصره. يعلّق الشهرستاني في سياق كلامه عن طاليس - الذي ذهب الى أن الله قد أبدع العنصر الأول وهو الماء، وفيه صور الموجودات والمعلومات كلّها – :(
وفي التوراة في السفر الأول منها أن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى، ثم نظر إليه نظرة الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماءا، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان؛ فخلق منه السموات. وظهر على وجه الماء زبدالبحر فخلق من الارض ثم أرساها بالجبال. وكأنّ تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبويّة
والذي أثبته من العنصر الاول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهيّة، إذ فيه جميع أحكام المعلومات، وصور جميع الموجودات، والخبر عن الكائنات.
والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش: ( وكان عرشه على الماء). انتهى كلامه. ص 318دار الفكر بيروت. تحقيق الاستاذ عبد العزيز محمد الوكيل.)
في مقبل الكلام إن شاء الله سنقلّب وجوه الهرمنيوطيقا، دون أن تُلزم أحدا بشيء؛ كما لا نشترط عليها أن تمشي بنا سير المشّائين من المقدمات الى النتائج المنطقيّة. |