تحولات الضمائرواثرها فى الابداع كن أول من يقيّم معدولات الضمائر:( أنا ) محول إلى (أنت) يرد ضمير المفرد المتكلم منذ بداية الشعر العربي الى استعمالات بديلة ، وخاصة في مطلع القصائد: امرؤ القيس: ألا رب يوم لك منهن صالح ولاسيمـا يومـا بداره جلجـل ويوم دخلت خـدر عنيـزة فقالت: لك الويلات انك مرجليالأعشى الأكبر: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا؟علقمة: طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حسان مشيب واستمر هذا التقليد الشعري في العصر الأموي والعباسي: أعشى همدان: طلبت الصبا إذ علاك المكبر وشــاب القــذال ومـا تقصـرأبو نواس: بادر صبوحك وأنعم أيها الرجل واعص الذين بجهل في الهوى عذلوا وقد ترسخ هذا الاستعمال حتى وجدنا امرأة شاعرة هي الخنساء، تعبر عن نفسها بضمير المذكر: قذي بعينك أم بالعيـن عـوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار وبعد بيت أو عدة أبيات يعود الشاعر إلى استعمال ضمير المتكلم استعمالاً أصوليا.فهل يكون عدول الشاعر عن ( أنا ) في مطالع القصائد محاولة منه لاعتباره ضميراً محايداً لا يقصد به شخص معين ؟ أم هي محاولة فنية ترمي إلى دمج الوعيين: وعي المرسل بوعي المتلقي؟ (أنا) محول إلى (هو): يستعمل هذا الانزياح على أوسع مداه في رسم الصورة الذاتية سواء في الشعر أو النثر. وهو الضمير الذي يستخدمه الكتاب المحدثون في رواية سيرتهم الشخصية، فيروون أحداثها مستخدمين كلمة " الفتى " – طه حسين في الأيام – أو " الصديق " – سامي الدهان في دروب الشوك .. ولا يمكن تحديد الوظيفة الإنشائية لهذا العدول منقطعاً عن الدور ROLE والوضعية STATUT للشاعر أو الكاتب. وسوف نأتي بأمثلة تبين بعض هذه الوظائف دون الإحالة بها كلها: كثير عزة: سيهلك في الدنيا شفيق عليكم إذا غاله من حادث الدهر غائله ويخفي لكم حباً شديداً ورهبة وللناس أشغال وحبك شاغله كريم يميت السر حتى كأنه إذا حدثوه عن حديثك جاهله فالشاعر ينظر إلى تجربته مختفياً وراء " الآخر " لئلا يتناقل الناس اسمه أو يشيع حبه. العكوك: ذاد ورد الغي عن صـدره فارعوى واللهو من وطره وأبـت إلا الـوقـار لـه ضحكات الشيب في شعره ندمي أن الشبـاب مضـى لـم أبلغـه مـدى أشـره ذهبت أشيـاء كنـت لهـا صارفا حلمي إلى صـوره يبدأ الشاعر قصيدته بضمير الغائب ثم يضيق دائرة الرؤية فيتراجع تدريجياً إلى ضمير المتكلم. وهذه الفسحة الزمانية ضرورة أساسية للتأمل، وركيزة هامة للذكرى. سعد بن ناشب: عليكم بداري فاهدموها فإنها تراث كريم لا يخاف العواقبا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا هذه اللقطة التصويرية معاكسة للأولى، تبدأ بضمير المتكلم ثم تنفصل عنه لتصف وصفاً موضوعياً شخصية أخرى لها قسمات ثابتة قد يجهلها الأعداء ولكن الحديث عنها بضمير الغائب يوحي بقدمها ورسوخها. وقد يجمع الشاعر بين عدد من الضمائر المعدولة عن (أنا) ليرسم صورته كما يتخيلها وليس ضروريا أن يكون ذلك في مجال الفخر أو الغزل. ونأتي على ذلك بمثالين: أبو دلامة: ألا أبلغ إليـك أبا دلامـة فلست من الكرام ولا كرامه إذا لبس العمامة كان قردا وخنـزيرا إذا نزع العمامه إن دور الشاعر ووضعيته كمهرج في بلاط الخليفة سمحتا له بأن يهجو ذاته على اعتباره شخصاً آخر. وكأنه بذلك يحمي نفسه من الآخرين ويمنح لنفسه الحرية المطلقة في هجائهم والنيل منهم بعد أن بدأ بنفسه. قد تكون (الأنا) بؤرة لعدد من التحولات المعقدة. كما في قصيدة المتنبي: كل خصاله أرق من الخمر بقلب أقسى من الجلمود جمعت بين جسم (أحمد) والسقم، وبين الجفون والتسهيدأحمد هو أنا هـذه مهجتـي لديـك لجيتـي فانقصى من عذابها أو فزيدي أهل ما بي من الضنى ( بطل ) صيـد بتصفيـف طره وبجيدبطل هو أنا ولعلي مـؤمل بعـض ما أبلـغ باللطيف من عزيز حميد (سري) لباسـه خشـن القطـن ومروي مرو لبس القرودسري هو أنا عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود فهذا البيت موجه إلى القارئ كما يراه الشراح . ولكن إذا وضعناه في سياقه التركيبي من القصيدة وجدناه موجهاً من " المرسل" إلى نفسه، ولا يصل إلى " المتلقى " ألا منقطعاً عن بقية الأبيات. وسنحاول إعادة كتابته: عش عزيزاً ( يا احمد ) أو مت وأنت كريم ( يا احمد ) لا عش عزيزاً ( انا ) أو لا مت كريماً ( انا ) هذه التحويلات كلها تقوم بوظيفة أساسية في قصيدة المتنبي هي تعظيم الذات التي بلغت من التضخم بحيث انفصلت عن حاملها واكتسبت وجوداً ذاتيا يدعوه الشاعر: أحمد أو بطل أو سري. (أنا) محولا إلى (نحن)- الوظيفة الأولى لإنتقال ضمير المتكلم بالمفرد إلى الجمع هي تعظيم الذات. ونعتقد أنه مقتصر على "الذات العلية" كما ورد في القرآن الكريم " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .. " ولم يستعمله الرسول (ص) أو الخلفاء الأوائل. والله عندما يتحدث عن ذاته يقول (نحن)، ولم ترد مخاطبة الناس له بضمير (أنتم) إلا في عصور متأخرة. ولا نعرف تاريخا محدداً لعودة العرب إلى استعمال ضمير المفرد بصيغة الجمع، لكن المؤكد ان هذا الاستعمال أصبح متداولاً في الشعر الأموي وشائعاً في العصر العباسي شعراً ونثراً: الحارث بن خالد (ت/ بعد 100هـ): ما ضركم لو قلتم سدادا إن المنية عاجل غدها ولها علينا نعمة سلفت لنا على الأيام نجحدها لو تمت أسباب نعمتها تمت بذلك عندنا يدها |