البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الرواية والقصة

 موضوع النقاش : أقصوصة (الكراسة)    قيّم
التقييم : التقييم :
( من قبل 4 أعضاء )
 صبري أبوحسين 
23 - يونيو - 2008
أقصوصة (الكراسة)[إبداع الطالبة الإماراتية: يمناء المرزوقي
 
في أرض "كرامة" تستقر حديقة بها زهرات أصيلة، تنهل من مصادر العلم الإسلامي والعربي ومعارفه المتنوعة...
كُلـَّفتُ بالاعتناء بمَـشْتـَلين من هذه الحديقة في الفترة الصباحية.
وذات يوم كانت أولى جوَلاتي في شهر رمضان إلى المشتل الثامن كان ذلك يوم الأحد 4/رمضان، وعندما أقبلت، طلبتُ من حاكمة المشتل: النرجسة أسماء أن تسجل أسماء الغائبات؛ لذا لم أنتبه إلى وردة جديدة حلت ضيفة عندي، كانت تكره كل شيء في المشتل؛ بسبب إجبارها على الالتحاق بهذه الحديقة، كنتُ مولعًا بـعلم العروض، وكنت أحب أن لا أبخل بما عندي؛ لذا شرحت الزحافات والعلل لزهَراتي وأنا في قمة السعادة والنشاط؛ إذ إني أستمتع جدًّا بالعروض إلى أن انتهى وقت التجوال.
خرجت من المشتل والغد يتغطى أمامي لا أعرف ماذا يمكنني أن أعطي وماذا سأنتج؟
ودخلت ذاك المشتل الندي بعد يومين وإذا بي أذهَل برؤية إبداع أخّاذ جذاب، حركاتٌ متقنة تنساب على حروف متداخلة تـُسمِع أذن ناظرها هدير رَقـْرَقـَتها، وتـُري العين إلهامَ الخلاق البديع في الخيال، بسملة نـُحِتتْ على الحائط، لم يسبق لي أن رأيت نظيرًا لها، ما كان مني إلا أن سألت عن هوية تلك المبدعة، فأشارت إليها الزهرات، قائلات: إنها الجورية يمناء، أحببت أن أكافئها بما تحب خاصة وأنها جديدة؛ فأهديتها نقطة تميز، وعوضتها ما فاتها من الشرح، ـ وقد كانت تستحق ذلك؛ فقد كانت تعطي مادتَي العروض والأدب اهتمامًا بالغًا، لدرجة أنها كانت تذاكر العروض ليلًا وتنام على الكتاب وعندما يوقظها أحد تذكرُ له التفاعيل بلا وعي حتى خيفَ عليهاـ وطلبتُ بعدها من الزهرات كافة إتياني بما يمكنهن من إبداع؛ فنفسي طـُلـَعَة إلى ذرى الإبداع، كم أحب أن أرى ماذا يمكن لزهراتي أن تنتج! وكم أحب أن أرى تفوقهن على أقرانهن!
عادت الجورية إلى المنزل، أخبرت الكل عن إعجابي بكتابتها البسملة، ومن يومها عرفتني أسرتها كلها، وبدأتْ تحب المشتل قليلا.
وبعدها بيوم أي يوم الأربعاء7/رمضان،19/سبتمبر مضيت، و لم أدرِ أن هناك مفاجأة تنتظرني، دخلت فإذا بمِلـَفٍّ وضَعَته النرجسة أسماء أمامي.
ـ إنه من الجورية.
 سعدتُ بسرعة الاستجابة من هذه الجورية؛ حيث إني رأيت أن به أبياتًا أو كما ظننتـُه، مع أنها كانت مشاركاتها في الإذاعة المدرسية في مراحلها السابقة، ولم تهتم بالأوزان والقوافي.
ـ حسنًا لا بأس، انتظري النقد أيتها الجورية يمناء.
ومضيت على عادتي أشرح العروض، ثم استوقفتُ زهراتي على سؤال يريني قدر استطاعتي على إيصال المعلومة :
ـ الذكية والمنتبهة والممتازة تستطيع أن تجيبني: أيٌّ من هذه التفاعيل كوَّنت الفاصلة الكبرى؟؟؟
ـ مُتـَعِلـُن .
دُهِشتُ من سرعة البديهة هذه من وردة حديثة كما دُهشتْ زميلاتها.
ـ أحسنت يا جورية يمناء لك نقطة أخرى.  (وأنا متأكد أنه سيكون لها شأن مذكور بإذنه تعالى)....
فرحتْ كثيرًا لكنها لم تقل حتى كلمة شكرًا، وكانت هذه آخر مرة أهديها نقطة.
أشرقت شمس الأسبوع الثاني يوم الأحد11/رمضان،23/9، وأقبلتُ على عملي، وكالعادة أبدأ بالمشتل الثامن، اختبرتهن في ما شرحت لهن، وجذبتني ورقة الجورية التي كتبت فيها بقلم الخط العربي، فقرأتها.
خرجت وأنا أبشِّر الجورية بوصول ملفها في أقرب وقت.
انتظرت الجورية ملفها بلهفة يخالجها بعض الخوف من نقد أستاذي، قد أبدي بعض التهكم تجاه ما كتبتْ،لا سيما وأنها لا تدري كيف نظْمُ الأبيات، لكن النرجسة كانت تهون عليها وتمدحني كثيرًا، و ما عليها سوى الانتظار، لكنها فكرت بأن تحاول في الشعر ولو قليلا، جلستْ في الحافلة في طريق العودة، اختارت البحر البسيط، وضعت تفاعيله أمامها، ثم بدأتْ بنظم أبيات فلسفية لم تدرِ هي معناها، وكان البيت الأخير مكسورًا، حاولت أن تصلحه لكن دون جدوى، فقررت أن تعطيني الأبيات مع الكسر.
ـ وفي يوم الثلاثاء13/رمضان،25/9، أهديتُ المِلف زاخرًا بالأوراق إلى الجورية قبل أن أصطحب زهراتي في رحلة إلى إحدى البيوت البلاستيكية، التي تدعى"القاعة الذكية"، ظنت الجورية أن كل هذه الأوراق لها وهي محتشدة بالنقد؛ فخشيتْ أن تفتح المِلف. هناك، قامت النرجسة بشرح بعضٍ مما شرحتـُه، وحاولت الباقيات ذكر الزلات التي وقعتْ فيها. اكتفت الجورية بذكر الأخطاء الإملائية والنحوية، وهذا ما رأيته في الورقة التي أهدتني إياها مع تلك الأبيات.
ـ هذه الأبيات موزونة.
ـ حسنًا انتظري النقد.
 يا ترى هل يمكن لها أن تنشئ كلامًا موزونًا بهذا الوقت المبكر، وتتفوق على زميلاتها اللواتي أشرفتُ عليهن مدة أطول؟ سأرى ذلك في خلوتي المنزلية...
وعادت الزهرات إلى حيث ينتمين إلى المشتل، وهناك حدث جدال بينهن ـ لم أشهده ـ كان الشجار بسبب رغبة الزهرات في رؤية نقدي للجورية، والجورية لا تريد إطلاعهن عليه، وبعد طول عراك أدبرت بعض الزهرات وبقيت القليلات، أمثال: النرجسة، والياسمينة علياء، والفلة ثرياء، فقرأت عليهن الجورية ذاك النقد.
ـ لم يأتِ الأستاذ بجديد ، أنا أعلم أنها غير موزونة.
ـ الياسمينة علياء: لكن كلامك جميل، وعله يريد تشجيعك للمواصلة في طريق الشعر.
بحثت الجورية عن كلمة(الشياكة) التي كتبتـُها في النقد، فلم تجدها، إذنْ هي كلمة غير عربية، لكنها أعجبت بطريقة مديحي إياها.
وفي اليوم التالي ـ الأربعاء26/9ـ أعدت الورقة إليها، تمالكها شعور بالعجز و الضعف بعد أن رأت نقدي؛ فتوقفت عن كتابة المزيد.
ـ بإطلالة الأسبوع القادم كان لنا موعد آخر مع القاعة الذكية(Smart room)يوم الأحد18/رمضان، 30/9، ولكن هذه المرة ستشرح الياسمينة علياء، بدا لي أن أسلوبها هجومي خاصة وأنها طلبت ممن سيتحدث الخروج؛ فأخذتها بالحكمة والموعظة الحسنة.
كانت شخصيتها قوية، ولسانها ذربًا، أثنيت عليها وأريتها بعض أخطائها. لكني أردت شيئًا جديدًا لم أشرحه، شيئًا تشرحه لي وردة متميزة بارعة.
ـ شكرًا لكنَّ، لكني أود أن تأتيني وردة بشيءٍ جديد لم أشرحه من قبل، وأنا أرشح لذلك الجورية يمناء ومن تختار.
ويا للمصيبة!!! لمْ أدرِ أنها وردة جبانة لهذا الحد، فما إن سمعتْ بما قلتـُه حتى تعرضتْ لتغيرات هستيرية وفسيولوجية بسبب الخوف؛ فأحسَّتْ بصعوبة في التنفس، وارتفاع وانخفاض متواليين لدرجة الحرارة، وانقباض في الأنابيب اللاوعائية، واصفرار في الأوراق.
ثم قالت لزميلاتها بصوت منخفض وكأنها تود البكاء: لا ،لا، إلا أنا .
جاءتها النجدة، وكانت زهرات الإسعاف على أهبة الاستعداد لإنقاذها.
ـ القرنفلة نادية: أستاذ، نحن نود أن نفعل ذلك.
ـ حسنًا.
ثم اقترحتُ جعل المعلومات العروضية في كشافات دالة، وتقديمها لي كتقرير.
ـ من تود كتابة تقرير في علم العروض في كشافات دالة؟
رفعتِ الجورية والنرجسة بـِتِلاتِهما(أصابعهما).
ـ إذن الجورية والنرجسة ومن تختاران.
خرجتُ من القاعة الذكية، والجورية تقول لزميلاتها: سامح الله الأستاذ، كاد أن يقتلني، لا أزال أجد صعوبة في  التنفس.
وذات يوم ذكرت لزهراتي أنه من الصعب أن يكون المرء شاعرًا؛ فاشتعلت نار الحماسة والإرادة في عيني الجورية، فهي دائمًا تحب الصعب...
ومضت أيام رمضان كلمح البصر، وأتانا العيد بحلته الزاهية، بضحكاته، وامتيازاته، وإجازته، الكل يحاول الاستمتاع به قدر الإمكان، وكانت الجورية في هذه الأثناء تكتب أبياتًا ثم تقطعها، وقد ألفتْ قطعة بمناسبة العيد. زارتها زهرات خالها فاستغربن مما تفعل.
ـ ماذا تفعلين يا جورية؟ آلعيد وقتٌ للتقطيع والشعر أم للمتعة؟
ـ هذا ما طلب منا الدكتور، وسترَينني شاعرة في المستقبل بإذن الله، ولكن ما رأيكن بما ألـَّفت؟
ـ دعينا من الأوراق، ولنتحدث.
وهكذا لم تجد الجورية تشجيعًا إلا مني وبعض زميلاتها، فهي أول ناظمة للأبيات في عائلتها.
ومع انتهاء العطلة عادت زهراتي الجميلة إلى المشتل، وبما أن الدوام بدأ يوم السبت عوضًا عن الخميس؛ لذا فإني لم أتفقد زهراتي، ولكن زرتهن في اليوم التالي كانت زهراتي في قمة النضارة والحيوية، فكرتُ في أن أستثمر نشاطهن في تقطيع الأبيات، ومعرفة ما طرأ عليها من زحافات وعلل، ونسبتها إلى إحدى البحور الستة عشر، فقامت الواحدة تلو الأخرى تقطع ولكن ليس على الوجه الذي أريده، طلبتُ من الجالسات تقطيع الأبيات، وبسرعة أرتني الجورية تقطيعها.
ـ أحسنت يا جورية، ولكن عندك خطأ بسيط.
ـ (بعد أن رأت خطأها): دكتور هنا عصب وليس قطفـًا.
ـ (رأيت خطئي): نعم صحيح، زهراتي أنسبت الجورية هذا البيت إلى البحر الوافر، ولننتقل إلى غيره.
لم أعطها نقطة كما أعطيت للأخريات؛ لذا تهاونت في التقطيع فيما بعد، كما أنها غضبت حين أنسبتُ جهدها إلى النرجسة أسماء، لكن النرجسة نبهتني على ذلك، كما أني لم أكن أعلم أنها كانت بارعة في التقطيع والقراءة العروضية للطويل والوافر والكامل والبسيط في المراحل السابقة، وأنها كانت تلقـَّب (الخليل الفراهيدي) إضافة إلى لقب(سيبويه) لحيرة معلماتها وزميلاتها من حبها للغة العربية، كما حيرتني فقد كانت واحدة من ست حصلن على الامتياز في الامتحان، لكني لم أعرف أني أحزنتُ النرجسة في ذاك اليوم، فقد ذهبتْ إلى نادي الإبداع مع الجورية، حتى تشترك الجورية في عضوية النادي، ومدَحَتها كثيرًا.
ـ هذه الجورية شاعرة، النادي محظوظ بانضمامها، دكتور العروض  لم يكن يعرف غيري، وعند قدومها أصبح لا يذكر إلا الجورية يمناء فعلت وفعلت، حتى أنه قدّم اسمَها على اسمي عند تسليم أوراق الامتحان. 
 
شاهد التعليقات الأخرى حول هذا الموضوع
أضف تعليقك
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
بداية موفقة ومبدعة    كن أول من يقيّم
 
الأقصوصة رائعة وممتعة .. لم أحس بالملل إطلاقاً وأنا أقرأ أحداثها على الرغم من أنها تبدو لأحداث واقعية يومية.. أتمنى أن تواصلي درب الإبداع وأنتظر بفارغ الصبر جديدك..
صديقة قديمة
25 - يوليو - 2008
أضف تعليقك