قبل ستين عاما ونيف ، ظهر كتاب "إحياء العروض" للعلامة عز الدين التنوخي ، ولم يكن في ساحة البحث العروضي، إذ ذاك، إلا الكتاب الذين يجترون عمل الخليل ولا يكادون يضيفون إليه شيئا ذا بال. ومع ذلك فقد انتبه التنوخي، رحمه الله،بعد أن انتهى من كتابه إلى وجود كتاب عظيم الشأن في هذا العلم للشيخ عبد الفتاح بدوي هو كتاب "العروض والقوافي" قائلا إن فيه "وثبات جريئة على المصطلح العروضي القديم، وافقناه في بعض نظراته وخالفناه في بعض وثباته، ولم نظفر بكتابه المبدع الممتع إلا بعد أن شرعنا في طبع كتابنا، فعززنا نظراتنا بأبحاثه ...". ومع أننا لا نعلم بالضبط شيئا عن تاريخ طباعة كتاب "موسيقى الشعر" للدكتور إبراهيم أنيس، الذي يرجح أن يكون سبق تاريخ طباعة الإحياء، فإننا لم نجد أحدا من مؤلفيهما أشار إلى كتاب الآخر، وكذلك لم نجد أحدا منهما أشار إلى أن للزهاوي المتوفى عام 1936م نظرية في العروض حاول من خلالها تبسيط أوزان الشعر من غير المرور بالدوائر مستخدما في ذلك تفعيلتين اثنتين فقط هما (فاعلن وفعولن)، وقد وردت هذه النظرية في مقال عنوانه: "تولد الشعر والغناء"، ولا أذكر الآن المجلة التي نشر بها مقال الزهاوي. بعد أن يعدد التنوخي في مستهل كتابه عيوب كتب العروض التي سبقته، ومنها : مواجهة الطالب الذي لم يسمع شيئا من لغة العروض بأبحاث العلل والزحافات، واستقباله بنكبة التسمية الشعرية لهذه الزحافات والعلل التي وضع لها في آخر الكتاب جداول أحاطت بها قائلا : ولو أنهم أطلقوا "الزحاف" على جميع التغيرات التي تلحق الأسباب والأوتاد معا ... لاستغنوا بذلك عن الزحافات العلية والعلل الزحافية. ومنها التعليلات العروضية ، وشغل عقل المبتدئ بدوائر البحور، وبدء كتب العروض بالبحور التي يصعب تقطيعها كالطويل والمديد والوافر، وسوء اختيار الأشعار المتخذة للتمرس والتدريب ( وهو يقصد شواهد الخليل ) ، بعد ذلك يقول: " ولعل هذه المجموعة العروضية أول رسالة بدئ فيها بتعلم الأبحر الخفيفة الأوزان والمؤتلفة الأجزاء ليسهل تقطيعها، فكان لذلك بحر الطويل مما يعرض الطالب لتقطيع أجزائه المختلفة بعد عدة بحور، ولعلها أيضا أول كتاب لم يبدأ فيه بتعليم العلل والزحافات لكيلا يبنى فيها معلوم على مجهول، ولأيسر على الطالب أن يتعلم في دراسة كل بحر ما يعرض له من علة وزحاف، وذلك لرؤيته في كل بحر ما يطرأ على مقياسه الأصلي من اختلاف أو نقص عارض". وهكذا يشرع التنوخي في عرضه للبحور بدءا بالمتدارك فالمتقارب فالهزج فالوافر فالرجز فالكامل فالسريع فالبسيط فالطويل فالرمل فالمديد فالخفيف فالمجتث فالمضارع فالمقتضب وأخيرا المنسرح . فهو كما ترى بدأ بالمتدارك والمتقارب لأن تفعيلتيهما أصغر التفاعيل وأبسطها. يقول التنوخي : "إن بحر المتدارك هو أبسط البحور، ووحدته القياسية (فاعلن) هي أبسط التفاعيل، ولذلك بدأنا به لأنه أسهل البحور وأساسها، وإن لم يعبأ به الخليل، فإن استطعنا أن نرد إلى (فاعلن) تفاعيل البحور كلها ، وأن نبين بالتحليل طريقة التحويل، وأمكننا أن نرجع بعض البحور إلى بعض ونقلل من ضروبها الكثيرة ، وأن نستغني بذلك عن تعليل التغيرات الطارئة على التفاعيل، وعن تسميتها المعلة المضلة، إن استطعنا ذلك رأينا أنا قد وفقنا في عملنا إلى ما قصدنا إليه من تيسير هذا العلم ، وما هو بالقليل". وسوف نواصل عرض هذا الكتاب القيم فيما يتيسر لنا من القول فيه إن شاء الله. |