محيميـد و جـده – 1 - كن أول من يقيّم
ملأ صدره بالهواء ، و ترك وجهه يغتسل بنسيم الفجر . لكن روحه لم تنتعش . تريث قبل أن ينحدر في الأرض المسواة الممتدة، وراءها غابات النخل ، ووراء ذلك النهر ، يلوح هنا و هنا بين فرجات الشجر . المنظر ، كأن "محيميد" يراه آخر مرة. وجهه متوتر كأنه يقاوم رغبة جارفة للبكاء . أنظر يميناً . هناك . أين غابة الطلح الكثة التي كانوا يلعبون فيها أيام الطفولة ? رائحة البرم ، زهر الطلح ، خصوصاً أيام الفيضان . و هناك عند منعطف الدرب حذاء الجدول الكبير كانت تشمخ شجرة حراز ضخمة معرشة ، تلمع ثمارها الصفراء كأنها حلقان الذهب . ذلك الماء كان له طعم آخر . بـلا غطاء ، ذلك السبيل ، عليه قرعة تتأرجح فوق الماء ، تضرب فـم الزير يسرة و يمنة ، يشرب منه الغادي و الرائح . مـن أقامه ? لا أحـد يذكر . لكنه لـم يعدم أحداً يملؤه صباح مساء . طعم الجلد المدبوغ ، طعم الماء فـي القربة المدلاة من الشعب في سقيفة جـده . و طعم ماء النيل أيام الفيضان ، طعم الأخشاب المبتلة ، و أوراق الشجر ، و الطيـن . طعم المـوت . صافي في أماكن الرمل ، عكر في محلات الطين . عصارة الحياة كلها في "ود حـامد" . مشدد قبضته على المقبض العاجي ، مقبض عصا الأبنوس ، و مضى بعزم يضعف و يقوى . غريبة تلك العصا ، الآن ، كأنها إمـرأة عارية وسط رجـال . يحس ملمسها و يتذكر "مريـم" . ذلـك الصوت . ذلك الشباب . ذلك الحلم . يخرج من داره كل يوم عند الفجر ، و يمشي هذا المشوار حتى النهر . يسبح و يعود مع الشروق . يحاول أن يوقظ الأشباح النائمة في روحه . أحياناً الحظ يؤاتيه ، فيسمع و يرى . الرؤى و الأصوات كأنها تنبع من تحت قدميه و مع خبط عصاه على الدرب . هنـا كان مكان النورج أيـام الحصاد . رائحة التبن . رائحة القمح . رائحة روث البقر . رائحة اللبن أول ما يُحْلَب . رائحة النعناع . رائحة الليمون . محجوب و عبد الحفيظ و الطـاهر و سعيد وهو . يغمض عينه . يراهم كما كانوا . متحركين أبداً ، يجرون ، يقفزون ، يتشعلقون ، ينطون من الفرع ، يتمرغون في الرمل ، يعيشون مثل الماء و الهواء . ينقر بعصاه على جذع شجـرة . يسمع ضحكة جـده . يرى وجهه واضحـاً . العينان الصغيرتان الغائرتان . الحنـك الناتىء قليلاً . الجبهة البارزة . الخدان الممصوصان . الفم الصغير . الشفتان الرقيقتان . وجـه أسود ، ناعـم السواد مثل القطيفة ، و عينـان تزرقَّـان و تخضـرَّان و تحمـرَّان و تسودّان ، حسب الظروف و الأحوال . لا يتخيله مفرداً أبداً . دائماً يـراه في جماعة ، على يمينه مختار "ود حسب الرسول" ، و على يساره "حمد ود حليمة" ، في وسط الجمع . يتذكره الان بخليط من الحـزن و الحقـد . لقد إختاره دون سائر أبنائه ليكون ظلاً لـه على الأرض ، و خلف لـه الدار و فروة الصلاة و إبريق النحاس و المسبحة من خشب الصندل ، و هـذه العصا . مـاذا تعكس المرآة الآن ? كان قد إجتاز الدرب الكبير المؤدي إلى السوق. رأى النخلة عند تقاطع الطريق فقصدها بلا تفكير . تهالك عندها و أسند قامته إلى جذعها . كانا مثل إخوين توأمين ، كأنهما إقتسما حصيلة أعمارهما بالتساوي ، فلا هـو يصغر جده و لا الجد يصغر حفيده . ما كان أعجب ذلك ! يتسابقان و يصلان معاً كتفاً بكتف . يشركـان للطير معاً ، و يصطادان السمك ، و يتباريان في تسلق مستعصيات النخل . يتصارعان ، يـوماً لـه و يـوماً عليه . يدخلان حلقة الرقص معاً فلا يثبت أمامها راقص أو مصفق ، و ترقص الفتاة بين الجَـد و حفيده في دائرة جذب مغناطيسي مدمر . تكثف الحلقة ، و يشتد التصفيق ، و تتأرجح الراقصة كأنها مشدودة بخيوط غير مرئية ، بين قطبي البوصلة ، ترمي شعرها المعطر على وجـه الماضي مرة و على وجـه المستقبل مرة . يقتسمان الغنيمة فيما بينهما لا غالب و لا مغلوب . تلمع عيونهما و يزعقان ، يطيران في الهواء و يحطان مثل نسرين جارحين . ما كان أعجبه منظراً . لكـن الحفيد في ذلـك الصباح ، ذهب أبعد ، و لعـل صوت الجد في تلك اللحظة ، كمـا يتخيل "محيميد" الآن ، لـم يخل من رنة غيـرة . حينئذ أحس نحوه بكراهية مريرة ، و لـو أن القارب إنقلب بهم و غرق ، لما مد الحفيد في تلك اللحظة يداً لمساعدته . لقد تقفى أثره خطوة خطوة ، و صار مثله ، حذوك النعل بالنعل . كانت الفـكرة تخطر لجده ، فإذا هي قد خطرت له فـي عين اللحظة ، و يقول أحدهما الجملة فيكملها الآخر ، و يتقاصصان أحلامهما فإذا هي تنبع من مصدر واحد . كان في نظره أشجع الناس و أكرم الناس و أذكى الناس و أكثرهم حكمة و هيبة . و كان أبوه أصغر الأبناء ، و أكثرهم خيبة أمل لأبيه و أكثرهم تعرضاً لسخريته . و كـان الإبن الأكبر "عبدالكريم" اسطورة قائمة بذاتها قبل أن يظهر الحفيد . هو الذي سافر بالجمال محملة بالتمر إلى ديار الكبابيش ، و عاد يسوق أمامه قطعان الإبل و الضأن . هو الذي جلب البضائع من حدود الريف و بلاد تقلى و الفرتيت . هـو الـذي أضاف أرضاً إلى الأرض و بيوتاً إلى البيوت ، و عمارة إلى العمارة . هـو الذي أقام اليوان الكبير ، و جـاء لأبيه بإبريق النحاس ذي النقوش ، و مسبحة الصندل ، و عصا الأبنوس ، و فروة الصلاة المعمولة من جلود ثلاثة نمور . كانا في الديوان وقت القيلولة حين جاء بنبأ طلاقه و زواجه . قال لعمه نيابة عـن جده أنه رجل باطل ، كل همه الجري وراء النساء . كان دون الخامسة عشرة و عنه في الأربعين ، تضاربا و الجد مستلق على سريره لا يقول شيئـاً ، و كاد الإبن يضرب أباه . بعد ذلك ذهب و لم يعد . و نفضوا كلهم واحداً واحداً . و لما مات الأب لم يحضره أحد من أبنائه . و كان الحفيد قد ذهب أبعد ، فوصل بعد فوات الأوان . مـا كـان أعجـب ذلـك .ً عن كتاب الطيب صالح ، بنـدر شـاه(مريود) |