قال أبو حيان التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة) المنشور على الوراق، أثناء حديثه عن مزايا العرب وخصائصها: ومما يدل على تحضرهم في باديتهم، وتبديهم في تحضرهم، وتحليهم بأشرف أحوال الأمرين، أسواقهم التي لهم في الجاهلية، مثل دومة الجندل بقرى كلب وهي النصف بين العراق والشام، كان ينزلها الناس أول يوم من شهر ربيع الأول، فيقيمون أسواقهم بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء؛ وكان يعشرهم أكيدر دومة، وربما غلبت على السوق كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب؛ فيقوم سوقهم إلى آخر الشهر. ثم ينتقلون إلى سوق هجر، وهو المشقر في شهر ربيع الآخر، فتقوم أسواقهم؛ وكان يعشرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم. ثم يرتحلون نحو عمان، فتقوم سوقهم بديار دبا، ثم بصحار. ثم يرتحلون فينزلون إرم، وقرى الشحر فتقوم أسواقهم أياماً. ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين، ومن سوق عدن تشتري اللطائم وأنواع الطيب، ولم يكن في الأرض أكثر طيباً، ولا أحذق صناعاً للطيب من عدن. ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت، ومنهم من يجوزها ويرد صنعاء، فتقوم أسواقهم بها، ومنها كانت تجلب آلة الخرز والأدم والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر، وهي معدن البرود والحبر. ثم يرتحلون إلى عكاظ وذي المجاز في الأشهر الحرم، فتقوم أسواقهم بها، فيتناشدون ويتحاجون ويتحادون، ومن له أسير يسعى في فدائه، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة من بني تميم، وكان آخرهم الأقرع بن حابس. ثم يقفون بعرفة، ويقضون ما عليهم من مناسكهم؛ ثم يتوجهون إلى أوطانهم. وهذه الأسواق كانت تقوم طول السنة، فيحضرها من قرب من العرب ومن بعد. هذا حديثهم، وهم همل لا عز لهم إلا بالسؤدد، ولا معقل لهم إلا السيف، ولا حصون إلا الخيل، ولا فخر إلا بالبلاغة.
|