البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : دوحة الشعر

 موضوع النقاش : بحــر الصّــفا    كن أول من يقيّم
 عمر خلوف 
29 - أكتوبر - 2006
 
بحر الصفا / مقصَّر البسيط
 
          على هامش الجنادرية 18 عام 2003، التقيت الأستاذ الشاعر (مصطفى عكرمة)، فأهديته نسخة من كتابي "البحر الدوبيتي-الدوبيت: دراسة عروضية تأصيلية جديدة" الصادر في الرياض عام 1997م. وكأنّ عنوانَ الكتاب قد أثار لديه ذكريات قديمة حول موضوع كان قد نُشر له في مجلة المجلة (ع671 ديسمبر 1992م) بعنوان "بحر الصفا، أيكون البحر السابع عشر?" ، مبيناً أنه استقى وزنه -فجأةً- من قوله تعالى: {الحمدُ للهِ ربِّ العالمينا} وأنه وضع له ضابطه الوزني التالي:
بحْرُ الصفا وزنُهُ هادٍ جميلُ ** مستفعلن فاعلن فعْلنْ فعولُ
وأنه كتبَ عليه ما ينوفُ على (18) قصيدة، نُشِر بعضُها في دواوينه، أو في بعض المجلات الأدبية. وتذكرتُ أنني لم أطّلع على مقاله، إلا أنني قرأتُ ردّاً عليه، كتبه العروضي التقليدي د.نور الدين صمود، في مجلة المجلة (ع679 فبراير 1993)، ذكر فيه أن ما توهمه الشاعر عكرمة بحراً شعرياً جديداً من ابتكاره ليس إلا (البحر المجتث التام)، مشيراً إلى أنه بحر خليلي مهمل، يمثل له العروضيون بقولهم المصنوع:
يامَنْ على الحبِّ يلحى مُستهاما ** لا تَلْحني، إنّ مثلي لن يُلاما
صدّتْ وحالتْ سُليمى يا خليلي ** عن عهدِنا، ليتَ شعري ما دَها
ها
ووزنه عندهم:
مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن ** مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن
 وقد اكتفيتُ حينها بهذا الرد التقليدي، على الرغم من عدم قناعتي بما أحالَ إليه د.صمود. إلاّ أنّ ما أثاره الشاعر عكرمة في حديثه، وما ذكره لي من أنه قابل د.صمود وأقنعه بوجهة نظره، وأنه في صدد نشر ما كُتب حول هذا البحر، جعلني أعِدُه بالإدلاء بهذا الرأي المخالف.
          فالحقيقة التي لا مِراءَ فيها هي أنه لا يوجد المجتث في الواقع الشعري إلا بشكله القصير المعروف: (مستفعلن فاعلاتن)، ونمثل له بقول الأخطل الصغير المغنّى:
 
يا عاقِدَ الحاجبينِ ** على الجبينِ اللّجَيْنِ
إنْ كنتَ تقصِدُ قتلي ** قتلتَني مرّتَيْنِ
تبدو كأنْ لا تَراني ** ومِلْءُ عينَيْكَ عيني
ومثلُ فعْلِكَ فعْلي ** وَيْلي منَ الأحْمَقَيْنِ

          والحقيقةُ الأخرى هي أنَّ ما يدّعونهُ أصْلاً للبحر المجتث، وما سمّاه عكرمة ببحر الصفا ليس إلاّ نتاج الصنعةِ العروضية كما فرَضَتْهُ دوائر الخليل، بينما هو في حقيقته أحد مقصّرات الضرب الثاني للبحر البسيط: (مستفعلن فاعلن مستفعلن فعْلن) والذي نمثل له بقول ابن زيدون:
 
إنّي ذكرتُكِ بالزهراءِ مشتاقا ** والأفْقُ طَلْقٌ ووجهُ الأرضِ قد راقا

وذلك بحذف السبب الأخير (لُنْ) من تفعيلة الضرب (فعْلُنْ)، ليبقى من الوزن قولنا:
(مستفعلن فاعلن مستفعلن فعْ) والذي يساوي عندنا: (مستفعلن فاعلن مستفعلاتن)
وهو ذات الوزن المسمى بالمجتث التام، أو ما أسماه عكرمة ببحر الصفا!
          ولقد ظنّ عكرمة أنّ أحداً قبله لم يكتب على هذا الوزن إلاّ تلكَ الأبيات المصنوعة، التي ذكرناها آنفاً، بينما الحقيقة أنه وزنٌ قديم قدم أصله البسيط، لم ينتبه إليه أحد بعد، وقد وجدتُ عليه قصيدتان جاهليتان نادرتان، العروض فيهما (مستفعلن) والضرب (مستفعلاتن)؛ أولاهما لامرئ القيس يُخاطب فيها شهاباً اليربوعي، والأخرى ردٌّ لليربوعي على امرئ القيس. وكان محقق ديوان امرئ القيس لم يجدْ لهما بحراً يُلحقهما به، فلم يستطعْ ضبطَهما، فجاءت بعضُ أبياتهما مختلة الوزن بسبب التصحيف والتحريف، ولذلك حاولنا هنا ردَّهما إلى الوزن الصحيح قدر الإمكان.
يقول امرؤ القيس([1]):
 
أبلغْ شهاباً وأبلغْ عاصِماً ** ومالِكاً، هلْ أتاكَ الخُبْرَ مالِ
أنّا تركْنا [لكمْ] قَتْلى بِخَوْ ** عى، وسُبِيّاً [تراهمْ] كالسّعالي
يمشينَ حولَ رِحالِنا [الوَنى] ** مُعْترِفاتٍ بجوعٍ وهزالِ
مستفعلن فاعلن مستفعلن ** مستفعلن فاعلن مستفعلاتن


 ويجيبه اليربوعي (على ذات الوزن والقافية):
 
لمْ تسْبِنا يا امرأَ القيسِ [لَنا] ** حتّى اسْتَفأْناكَ منْ أهْلٍ ومالِ
ذاكَ وكمْ [سَوْدَةٍ] كنْديّةٍ ** [تَقْبُلُ] القومَ بوجْهٍ كالجُعالِ
قايَظْنَنَا [ يأْكُلَنَّ فَيْأَنا] ** قِدّاً [قديماً] ومَحْروتَ الخُمالِ
أيّامَ [صَبَّحْتُكُمْ] مَلْمومَةً ** كأنّما نُطِّقَتْ في حَزْمِ آلِ
منْ كلِّ قَبّاءَ تعدو الوَكَرى ** إذْ وَنَتِ الخيلُ بالقومِ الثقالِ

           وقد كَتَبَ على هذا الوزن فيما بعد العديد من وشّاحي الأندلس، موشحاتٍ جميلة خالدة، منها قول ابن الفرس الغرناطي
([2]):
يا مَنْ أُغالِبُهُ والشّوقُ أغلَبْ
وأرْتَجي وَصْلَهُ والنجْمُ أقربْ
سَدَدْتَ بابَ الرّضا عنْ كلِّ مَطْلَبْ
 
وقول ابن عتبة([3]):
 
الروضُ في حُلَلٍ خُضْرٍ عروسُ
والليلُ قد أشرقتْ فيهِ الكؤوسُ
وليسَ إلاّ حُمَيّاها شُموسُ
وقول ابن سهل الأندلسي([4]):
 
خذها عقارينِ منْ لَحْظٍ وكاسِ
ما بينَ روضَيْنِ منْ صدْغٍ وآسِ
لا تُعْدِ خيلَ المنى فالروضُ كاسِ
          ولا بدّ أنْ نذكر هنا أنّ ما كُتبَ على وزن {الحمدُ للهِ ربِّ العالمينْ} بالوَقْف على النون، والذي يساوي (مستفعلن فاعلن مستفعلانْ) كثيرٌ جدّاً وقديمٌ جداً، ونمثل له بقول المرقش الأصغر([5]):
 
لابْنَةِ عَجْلانَ بالجوِّ رُسُومْ
لمْ يَتَعَفَّيْنَ والعهْدُ قديمْ
ومنه ما جاء في عدة الجليس (ص63):
 
للهِ ليلتُنا بالأبرقَيْنْ
والجوُّ أزهَرُ زاهي الأفُقَيْنْ
قطَعتُها بارتشافِ الأطيبَبَيْنْ
          والغريب أنهم يعتبرون الوزن (مستفعلن فاعلن مستفعلانْ) مجزوءاً للبسيط، ثمّ يعتبرون الوزن (مستفعلن فاعلن مستفعلاتنْ) من المجتث!!
          بل إنّ الحقيقة الكبرى هي أن البحرَ المجتث -في شكله الشعري المعروف- ليس إلاّ من مقصرات البسيط، ويندرج تحت مظلّته. وأخطأ الخليلُ -رحمه الله- في اعتباره مجتثّاً من البحر الخفيف، وذلك لاعتبارات عديدة نذكرها إن شاء الله في دراستنا المنفصلة عن البحر المجتث.
 
 
 
 


([1]) ديوان امرئ القيس ص210.
([2]) المُغرِب في حُلى المَغرب 2/122.
([3]) المُغرِب في حُلى المَغرب 1/281.
([4]) ديوانه ص501.
([5]) المفضليات ص247.
شاهد التعليقات الأخرى حول هذا الموضوع
أضف تعليقك
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
مثال مسموع    كن أول من يقيّم
 
شكرا أخي الدكتور عمر،
 
فيما يلي مثال مسموع على ما أسميته مجزوء البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن)، وربما يكون ما ذكر سابقاً هو نفسه مجزوء البسيط مرفلاً
 
 
 
لينة
23 - نوفمبر - 2006
أضف تعليقك