فـــن التـوقيـع فـي الأدب العربـي د. سليمان القرشــي www.slimane.fr.cc يصادف المتصفح لكتب المختارات والأمالي وكتب الأمثال والحكم وغيرها من كتب الأدب بمفهومه العام , بين الحين والآخر, ذكرا طارئا للتوقيعات التي ارتبطت في الغالب الأعم بالملوك والأمراء والقادة والساسة, وقد كانت هذه التوقيعات مشروطة بشروط تاريخية وفكرية معينة قد لا تتكرر في الزمان والمكان، أي أنها وليدة سياقها الثقافي والتاريخي. ومجال البحث في فن التوقيع في الأدب العربي مجال طريف ومفيد غاية الإفادة في نفس الوقت؛ ذلك أنه يوقفنا على طبيعة المرجعيات المعرفية والخلفيات الفكرية للملوك والأمراء والقادة خاصة, وللأدباء والكتاب والحكماء وغيرهم بصفة عامة، كما انه يوقفا على شخصيات هؤلاء وتكوينهم ومدى معرفتهم بتقنيات الحوار وشروطه وأساليبه. والغريب في الأمر أن فن التوقيع لم يحظ بما يستحق من عناية واهتمام من طرف الباحثين والدارسين؛ إذ لم يكد يلتفت له ملتفت أو يشير إليه مشير, ولعل السبب في هذا راجع إلى نوع من التداخل الحاصل بين كل من التوقيع والأمثال التي تعتبر في عمومها "من جوامع الكلم والأقوال المأثورة التي تعتمد الكنايات الإيحائية والاستعارات التمثيلية, وقد لا تخلو أحيانا من تهكم وسخرية", ومن هنا فإن التعريف العام للمثل قد يصدق بعض الصدق على التوقيع؛ إذ "يمكن القول إن المثل قول موجز مكثف سائر مشهور قيل في ظروف معينة, يستشهد به في حالة مماثلة, مصاغا صياغة مادية, يجمع في مفهومه عناصر المورد والمضرب, والإيجاز والثبات والغرابة". ولا شك أن هذه الحدود المفاهيمية يمكن أن تتسع لتشمل كذلك التوقيع ضمن دائرة نفوذها. - محاولة لمقاربة مفهوم التوقيع: جاء في لسان العرب : " التوقيع في الكتابِ: إِلْحاقُ شيء فيه بعد الفراغِ منه، وقيل: هو مُشْتَقٌّ من التوْقِيعِ الذي هو مخالفةُ الثاني للأَوّلِ. قال الأَزهري: تَوْقِيعُ الكاتِب في الكتاب المَكْتُوب أَن يُجْمِل بين تَضاعِيفِ سطوره مَقاصد الحاجة ويَحْذِفَ الفُضُول، وهو مأْخوذ من تَوْقِيعِ الدَّبَر ظهر البعير، فكأَنّّ المُوَقِّع في الكتاب يُؤَثِّر في الأَمر الذي كُتِبَ الكتابُ فيه ما يُؤَكِّدُه ويُوجبه. والتوْقِيعُ: ما يُوَقَّعُ في الكتاب"ِ. أما معجم تاج العروس فقد كانت حدود تعريفه للتوقيع أكثر ضبطا ودقة، حيث جاء فيه ما نصه: " والتَّوْقِيعُ: ما يُوَقَّعُ في الكتابِ، كذا في الصِّحاحِ والعُبابِ، وهوَ إلْحَاقُ شَيءٍ بعْدَ الفَرَاغِ منْه لمَنْ رُفِعَ إليْهِ، كالسُّلطانِ ونَحْوه منْ وُلاةِ الأمْرِ، كما إذا رَفْعَتَ إلى السّلْطَانِ أو الوالي شَكاةً، فكتَبَ تحتَ الكِتابِ، أو على ظَهْرِه: يُنْظَرُ في أمْرِ هذا، ويُسْتَوْفَى لهذا حَقُّه، ورُفِعَ إلى جَعْفَرِ بنِ يَحْيَى كِتابٌ يُشْتَكَى فيهِ بعامِلٍ، فكتبَ على ظَهْرهِ: يا هذا، قدْ قَلَّ شاكِرُوك، وكَثُرَ شاكُوك، فإمّا عَدَلْتَ، وإلا اعْتَزَلْتَ، ورُفِعَ إلى الصّاحبِ بنِ عَبّادٍ كِتابٌ فيهِ أنَّ إنْسَاناً هَلَكَ، وتَرَكَ يَتِيماً، وأمْوالاً جَلِيلَةً لا تَصْلُحُ لليَتِيمِ، وقَصَدَ الكتِبُ إغْرَاءَ الصّاحِبِ بأخْذِهَا". يبدو أن المسافة التي تفصل بين كل من التوقيع والمثل مسافة قصيرة جدا, بل إنها قد لا تتجاوز ذاتها أحيانا, فالتوقيع ـ كما المثل ـ قول موجز مكثف قيل في ظروف معينة, إلا أنه قد لا يستشهد به في حالة مماثلة نظرا لأن التوقيع كما قلنا من قبل مشروط بشروط خاصة لا تراوح زمانا ومكانا وحدثا معينين. وانطلاقا من هذه المقارنة بين التوقيع والمثل, فإنه يمكننا أن نصوغ تعريفا عاما للتوقيع؛ فهو قول مأثور ذو انتماء صريح وعلني لصاحبه, فصاحب التوقيع معروف, بل ومشهور بين الأنام, وهو كذلك وليد سياق تاريخي معين, سواء كان هذا السياق عاما أم خاصا. كما أن التوقيع قد لا يكون بالضرورة قولا سائرا مشهورا, فهو كثيرا ما يبقى حبيس مكانه وزمانه, وذلك لارتباطه بموقعه واقترانه بصاحبه، بل إنه قد يكتسب شهرته وذيوعه من هذا الاقتران. ومن الناحية التقنية فإن التوقيع يعتمد في صياغة بنيته على الكناية والاستعارة والتمثيل والمقارنة وقياس الشاهد على الغائب, وقد يتكئ اتكاء مباشرا على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والأمثال السائرة والأقوال المأثورة والأبيات الشعرية المشهورة. إن التوقيع بهذا المعنى فعل ثان يعقب فعل الكتابة ويليها, و هو بهذا نوع من القراءة المنتِجة التي قال بها المهتمون بالتلقي, فالتوقيع قراءة موجزة مكثفة لخطاب, غالبا ما ينبني في إطار رسالة أو خطاب, سواء اتخذ طابعا نثريا أو ركب مركب الشعر. أما عن علاقة العرب بفن التوقيع فقد لخصها صاحب تاج العروس حيث قال: "وقدْ زَعَمَ كَثِيرٌ منْ عُلماءِ الأدَبِ وأئِمَّةِ اللِّسانِ: أنَّ التَّوقيعَ منَ الكلامِ الإسْلامِيِّ، وأنَّ العَرَبَ لا تَعْرِفُه، وقد صَنَّفَ فيهِ جماعَةٌ، ولا سيَّما أهْلُ الأنْدَلُسِ، وكلامُهُم ظاهِرٌ في أنَّه غَيْرُ عربِيٍّ قديم، وإنْ كانَ مأْخُوذاً منَ المعانِي العَرَبيّةِ، فتأمَّل"ْ. ـ فـن التوقيع بين الجمالي والوظيفي: إن التوقيع, وكما حصره أحد الباحثين, "تذييل يكتب في أسفل الرسائل الواردة إلى ديوان الدولة أو على ظهرها, وتعتبر ردا من الحاكم وتعقيبا يمليه على كاتبه أو يخطه بيده, ومن ثمة فهو من إنشاء الحاكم نفسه, ونظرا لضيق وقته وكثرة مشاغله, لم ين لديه متسع للإفاضة والإسهاب في الجواب, ولا سيما أمام كثرة الرسائل التي تحتاج إلى الرد السريع, مما جعل التوقيعات تتميز في الغالب بالإيجاز الشديد الموفي للمقصد, وهي ظاهرة تجعلها شديدة الشبه بالبرقية من هذه الناحية". وهذا يعني أن ركوب مركب التوقيع من طرف الملوك وغيرهم من الموقعين كان في واقع الأمر استجابة لحاجات وظيفية أملتها مسؤولية القيادة ومتطلباتها التواصلية, على أن المتأمل في التوقيعات المبثوثة في كتب الأدب يلاحظ بوضوح أن هذه الحاجات التواصلية كثيرا ما تتوارى خلف حاجات جمالية وأدبية صرفة, إذ تبدو هذه التوقيعات آيات في البلاغة والدقة في إصابة الغرض المقصود, كما أن التوقيع يبدو بالغ الإلحاح في الاتكاء على الإشارة بدل العبارة واتخاذ التلويح بدلا عن التصريح الذي يميز المراسلات العادية والكتابات المباشرة التي تعتبر من حاجيات الحياة اليومية, وهي حاجيات لا تلتفت بالضرورة في وسائلها التواصلية إلى الجانب الجمالي أو الفني. نماذج لفن التوقيع: سنكتفي بعرض مجوعة من التوقيعات التي استقيناها من كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، وكتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، وكذا كتاب رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير لابن سماك العاملي الأندلسي، الذي خصص الباب الأربعين منه لتوقيعات الملوك، ومن هذه التوقيعات نذكر: - توقيع : وقع عثمان بن عفان رضي الله عنه في قضية رجل شكا إليه عيلة : قد أمرنا لك بما يقيمك , وليس لك في مال الله فضل عن السرف. - توقيع : كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يستأذنه في ابتناء مدينة , فوقع له: ابنها بالعدل , ونق طرقها من الظلم , وحصنها ونفسك بتقوى الله عز وجل. - توقيع: وقع أبو العباس السفاح إلى عامل تظلم منه : ( ما كنت متخذ المضلين عضدا). - توقيع : رفع إلى المأمون مولى له في طلب كسوة , فوقع له : لو أردت الكسوة للزمت الخدمة , ولكنك آثرت الرقاد , فحظك الرؤيا. - توقيع : وقع الخليفة عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في كتاب كتب إليه بعض عماله يسأله تولية عمل رفيع لم يكن من شاكلته : من لم يصب وجه مطلبه , كان الحرمان أولى به. لا شك أن هذه النماذج تؤكد ما ذهبا إليه أولا من حيث ارتباط التوقيعات بأهل السياسة ورموزها، كما أن هذه النماذج كلها تحترم شروط التوقيع؛ من حيث الإيجاز والاختصار والاتكاء على القرآن الكريم والمثل السائر . ولا شك أخيرا أن هذا الموضوع يحتاج لعدة توقيعات من رواد موقع الوراق استكمالا للفائدة. |