مضى أكثر من أسبوع لم أزر فيه موقع الورَّاق، ذلك لأنَّ استخدامي شبكة الإنترنت يتمُّ من مركز عملي، حيث أقضي أوقاتًا طويلةً ، أثناء دوام العمل وخارجه، أتصفَّح ما جدَّ من أخبارٍ، وأطَّلع على ما يغذِّي فكري وعقلي. أمَّا في الأسبوع الَّذي مضى، فإنَّ ذهابي إلى مركز العمل كان يتمُّ لوقتٍ قصير يوميًّا، حيث نقوم بأشياء لا نستطيع القيام بها من المنزل، أمَّا باقي الأعمال، فكنَّا نحاول إتمامها في المنزل. أمَّا السبب، فلن أذكر سوى أنَّني أعيش في لبنان.
أمَّا مشكلة تغذية الفكر والعقل، فهذا ما افتقدت جزءًا كبيرًا منه في الأيَّام الماضية، خاصَّةً موقع الورَّاق. أمَّا الاطِّلاع على الأخبار، فلا أحتاج في هذه الأيَّام إلى شبكة الإنترنت لمعرفة ما يحدث، فقد أصبحنا نحن الخبر، نرى ما يحدث من شرفات منازلنا.
وقد تردَّدتُ كثيرًا قبل كتابة هذا الموضوع في "الورَّاق"، نظرًا لما قد يثيره من حزازيَّات، ثمَّ تردَّدتُ في اختيار المجلس الَّذي سأعرض فيه موضوعي، ولو وجدت مجلسًا خاصًّا بالحزن والغضب لما تردَّدتُ... ووقع اختياري لمجلس التاريخ، لأنَّ لبنان يدخل التاريخ في هذه الأيَّام، كما دخله في 1996 و1993 و1975 و1973 و1967 و... لن أتابع تعداد المصائب الَّتي مُنينا بها، فقد أحتاج إلى أكثر من بضعة أسطرٍ لأذكرَ غالبيَّتها... وكلُّ ذنب هذا الوطن، أنَّ شعبه أعظم من مساحة أرضه.
لست أدعم حزب الله أو ألومه، ولا أدعم المواقف العربيَّة أو ألومها، ولا الصهيونيَّة، ولا أوروبا، ولا الولايات المتَّحدة، ولا أقول إنَّ هذا محقٌّ أو ذاك، كلُّ ما أعرفه هو التالي:
أطفالُ لبنان يُقتلون، البنى التحتيَّة للبنان يُقضى عليها، المدنيُّون يموتون تحت الأنقاض بعد أن ينزفوا طويلاً ولا سيَّارات إسعافٍ تصل، البشر باتوا أرقامًا تُذكر على لائحة القتلى: إذا ما سأل أحدهم عن عدد القتلى، فإنَّ الإجابة تتبدَّل بين دقيقةٍ وأخرى... هذه طفلةٌ صحت على صوت الصاروخ، فوجدت أخاها ميتًا هنا، وأختها ميتةً هناك، وأمَّها ملقاةً في مكانٍ آخرَ، لتُفاجأ في الخارج عندما ترى الناس يصرخون حاملين عددًا آخر من القتلى والجرحى، فهذه صديقتها الحميمة قد قُطِع رأسها، وهذا جارها قد بُترت ساقه وهو يستغيث... وتلك أمٌّ فقدت طفلها بعدما قتلته أصوات القذائف، فقط أصواتها، ولم يكن قد بلغ سنته الأولى... وذاك شابٌّ يحكي قصَّة فقدانه لعائلته في لحظة، ونحن نسمعه، ولم نعد نستغرب، وكأنَّه يحكي قصَّة حادث سيرٍ بسيط عرَّضه لخدشٍ في ذراعه... ولكن هذا لا شيء أمام سيَّارة الإسعاف تلك، الَّتي قُصِفت، فقُتِل من فيها، من مسعفين وجرحى، كانوا يظنُّون في هذه السيَّارة إنقاذًا لحياتهم، وها هم يفقدونها داخلها...
أكتب الآن هذه السطور، وأنا أخشى أن أفقد صديقًا من جبل عامل، أو رفيقًا يسكن الضاحية الجنوبيَّة، أو قريبًا يحاول النزوح من قريته بعدما طُلِبَ منه ذلك، وفي ذهني سيَّارة مروحين، ومنظر الجثث المتفحِّمة الَّتي ظننَّاها في البدء أكباشًا مشويَّة.
ولعلَّ أكثر ما يُثير غضبي هو ذاك المسؤول الَّذي يسخر منَّا بتلك الابتسامة المسفِزَّة، أو تلك الوزيرة الَّتي تبحث في إمكانيَّة تحضير الأجواء من أجل وقف إطلاق النار، وحتَّى ذلك الحين، يُقتَل من يُقتَل، ويفقد لبنان أكثر ممَّا فقد.
قد يستطيع اللبنانيُّون إعادة بناء ما هدِّم، ونحن مشهورون بالقدرة على إعادة الإعمار، وقد أعدنا إعمار وطننا آلاف المرَّات على مدى التاريخ، ولكن هل سيستطيع هذا الوالد إعادة بناء ابنه الَّذي ... هدِّم، أو قُتل? هل سيستطيع هذا الطفل أن يجلب والدًا جديدًا غير الذي فقده جرَّاء الغارات? بل كيف ستُبعثُ عائلةٌ جديدةٌ بعد أن أُبيدت بطلقةٍ واحدةٍ، بضغطةٍ واحدةٍ على ذاك الزرِّ، بقرارٍ واحدٍ اتَّخذه ساديٌّ هنا، أو غبيٌّ هناك...
أوقفوا الحرب... أوقفوا ساديَّتكم... العبوا بأشياء أخرى، وليس بأرواح الناس... لسنا خائفين على ما يُهدَّم، فنحن سنبنيه في اليوم التالي، لا شيء سيهزُّ اقتصادنا وقدرتنا على العمل، وها قد رتَّبنا أمورنا وكلُّ شيءٍ يجري كأن لا حرب... ولكنَّنا خائفون على هؤلاء الَّذين نفقدهم يوميًّا، هؤلاء لن يعودوا موجودين بعد اليوم، ولن نستطيع إعادة إعمارهم، لن يشعر ذاك الطفل بحنان أبيه، ولن يرى هذا الأب ابتسامة ابنه بعد الآن... رأفة بهؤلاء، أوقفوا الحرب، وإذا لم ترأفوا، فالتاريخ لن يرأف بكم، وستُفضح ساديَّتكم على مرأى من كلِّ الأجيال التالية، وسيتبرَّى منكم أحفادكم. |