| المختار من الطبائع3 كن أول من يقيّم
الاستبداد والإنسان عاش الإنسان دهرا طويلاً يتلذذ بلحم الإنسان ويتلمظ بدمائه, إلى أن تمكن الحكماء في الصين ثم الهند من إبطال أكل اللحم كلياً سداً للباب, كما هو دأبهم إلى الآن. ثم جاءت الشرائع الدينية الأولى في غربي آسيا بتخصيص ما يؤكل من الإنسان بأسير الحرب ثم بالقربان ينذر للمعبود ويذبح على يد الكهان. ثم أبطل أكل لحم القربان وجعل طعمة للنيران, وهكذا تدرج الإنسان إلى نسيان لذة لحم إخوانه, وما كان لينسى عبادة إهراق الدماء لولا أن إبراهيم, شيخ الأنبياء, استبدل قربان البشر بالحيوان واتبعه موسى عليه السلام وبه جاء الإسلام. وهكذا بطل هذا العدوان بهذا الشكل إلا في أواسط أفريقيا عند (النامنام). الاستبداد المشؤوم لم يرضَ أن يقتل الإنسان الإنسان ذبحاً ليأكل لحمه, أكلاً كما كان يفعل الهمج الأوّلون, بل تفنّن في الظلم, ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم, ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم, أو بغصب ثمرات أتعابهم. وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل. إن بحث الاستبداد والمال بحث قوي العلاقة بالظلم القائم في فطرة الإنسان, ولهذا رأيتُ أن لا بأس في الاستطراد لمقدمات تتعلّق نتائجها بالاستبداد الاجتماعي المحميِّ بقلاع الاستبداد السياسي, فمن ذلك: إن البشر المقدّر مجموعهم بألف وخمسمائة مليون (لعهد الكواكبي) نصفهم كَلٌّ على النصف الآخر, ويشكل أكثرية هذا النصف الكَلِّ نساء المدن. ومَن النساء? النساء هنَّ النوع الذي عرف مقامه في الطبيعة بأنه هو الحافظ لبقاء الجنس, وأنه يكفي للألف منه ملقح واحد, وأن باقي الذكور حظهم أن يساقوا للمخاطر والمشاق أو هم يستحقون ما يستحقه ذكر النحل, وبهذا النظر اقتسمت النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى, وتحكمن بسن قانون عام به جعلن نصيبهن هين الأشغال بدعوى الضعف, وجعلن نوعهن مطلوباً عزيزاً بإيهام العفة, وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن مَحمدتين في الرجال, وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ويظلم أو يظلم فيعان, وعلى هذا القانون يربين البنات والبنين, ويتلاعبن بعقول الرجال كما يشأن حتى أنهن جعلن الذكور يتوهمون أنهن أجمل منهم صورة. والحاصل أنه قد أصاب من سماهن بالنصف المضر, ومن المشاهد أن ضرر النساء بالرجال يترقى مع الحضارة والمدنية على نسبة الترقي المضاعف. فالبدوية تشارك الرجل مناصفة في الأعمال والثمرات فتعيش كما يعيش, والحضرية تسلب الرجل لأجل معيشتها وزينتها اثنين من ثلاث وتعينه في أعمال البيت, والمدنية تسلب ثلاثة من أربعة وتود أن لا تخرج من الفراش, وهكذا تترقى بنات العواصم في أسر الرجال. وما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبا أن تسمى المدنية النسائية لأن الرجال فيها صاروا أنعاما للنساء. ثم إن الرجال تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة أيضا, فإن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة, يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة, ينفقون ذلك في الرفه والإسراف, مثال ذلك أنهم يزينون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحياناً متراوحين بين الملاهي والمواخير, ولا يفكرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام. ثم أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون والمحتكرون وأمثال هذه الطبقة, ويقدرون كذلك بخمسة في المائة, يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع. وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظالمة هي الاستبداد لا غيره. وهناك أصناف من الناس لا يعملون إلا قليلاً, إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة و المشعوذين باسم الأدب أو الدين, وهؤلاء يقدرون بخمسة عشر في المائة أو يزيدون على أولئك. نعم لا يقتضي أن يتساوى العالمُ الذي صرف زهرة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم في ظل الحائط, ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل, ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت, بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته ويقاربه في معيشته ويعينه على الاستقلال في حياته. لا, لا, لا يطلب الفقير معاونة الغني, إنما يرجوه أن لا يظلمه, ولا يلتمس منه الرحمة, إنما يلتمس العدالة, لا يؤمّل منه الإنصاف, إنما يسأله أن لا يميته في ميدان مزاحمة الحياة. بسط المولى, جلّت حكمته, سلطان الإنسان على الأكوان فطغى وبغى ونسي ربه وعبد المال والجمال وجعلهما منيته ومبتغاه, كأنه خُلق خادماً لبطنه وعضوه فقط, لا شأن له غير الغذاء والتحاكّ, وبالنظر إلى أن المال هو الوسيلة الموصلة للجمال كاد ينحصر أكبر همّ للإنسان في جمع المال, ولهذا يُكنى عنه بمعبود الأمم وبسرِّ الوجود, وروى (كريسكوا), المؤرخ الروسي, أن كاترينا شكت كسل رعيتها فأرشدها شيطانها إلى حمل النساء على الخلاعة ففعلت وأحدثت كسوة المراقص, فهب الشبان للعمل وكسب المال لصرفه على ربات الجمال, وفي ظرف خمس سنين تضاعف دخل خزينتها فاتسع لها مجال الإسراف. وهكذا المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال. | طه أحمد | 15 - أغسطس - 2007 |