البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : أحاديث الوطن والزمن المتحول    قيّم
التقييم : التقييم :
( من قبل 39 أعضاء )

رأي الوراق :

 ضياء  
11 - يونيو - 2006
كان الأستاذ السعدي قد طرح ذات مرة تساؤلاً حول علاقة التاريخ بالسيرة الذاتية . حيرني بوقتها ذلك السؤال لأن المسألة تبدت لي بديهية ، ولما فكرت فيها ، استنتجت بأن التنظير لها صعب للغاية . فالسيرة الذاتية هي تاريخ شخصي تتقاطع أحداثة مع مجريات الحدث العام ، بالصدفة يحدث هذا التلاقي في الزمان والمكان ، هكذا يبدو ......  إنما مقاصد السؤال الذي طرحه كانت ربما : كيف تحكي السيرة الذاتية التاريخ العام ?

عندي مثال ساطع على هذا تعلمت منه أكثر مما تعلمت من كتب التاريخ . فجدتي ، رحمها الله ، كانت تقص على مسامعنا سيرة عمرها الطويل وتعيد تردادها بدون كلل أو ملل . منها تعلمت تاريخ طرابلس ، تقصه مشفوعاً بأخبار الذين كانوا من حولها ممن مات ، أو عاش ، أو ولد ،  قبل " الطوفة " مثلاً( طوفان نهر أبو علي ) أوبعدها ، ومن كسر يده في الزحام ، أيام ثورة القاووقجي ، أو عندما جاء ابراهيم هنانو إلى طرابلس ، وأين اختبأوا أيام " ثورة شمعون " . وتحكي أيام الأنكليز وكيف انتشروا بوقتها على شاطىء البحر ، وكيف جاء الفرنسيون بعسكر السنغال ، وعن أيام السفر برلك ورحلتهم مع الجوع والعذاب والجراد والمرض آنذاك ، وعن جيرانها اليهود وعاداتهم ، وكيف كانت طرابلس في ذلك الحين : الأحياء ، البيوت ، الطرقات ، النهر ، السوق ، القلعة ........ تاريخاً موثقاً بالأسماء والأرقام والوقائع من ذاكرة نبيهة صاحية ، ظلت طوال حياتها تنظم وتؤطر وتسلسل تلك المعلومات وتعيدها على مسامعنا على شكل حكايا ، تاريخاً متماسكاً كانت وحدها تعرف سره ، وتعرف كيف تمسك به بقبضتها الواثقة . كيف لا وهي من كان يعرف كيف يحصي ويحفظ كل شيء : الأرقام ، التواريخ ، الأعمار ، و عدد درجات السلالم التي تطلع عليها ، أو عدد حبات الزيتون التي تأكلها في كل وجبة ، ومواقيت الفصول والأعياد والزراعة في الحساب الشرقي وبحسب هلة القمر ، وحتى لو قامت بحشو الكوسى فإنها ستضع فيه " الحبة فوق الحبة ، والرزة فوق الرزة " تحسبها بالمثقال .

 ولطالما تساءلت عن سبب إصرارها على إعادة تلك القصص التي كنا نتذمر منها ونتأفف لها أحياناً . وفهمت بأن الزمن قد تحول وتبدل كثيراً من حولها ، وأنها تحاول ان تمسك بماضيها ، ان تستعيده على طريقتها . وبالرغم من أنها كانت تروي حياتها كأمتداد لحياة من سبقها أو تلاها من الأجيال ، بدون إسراف أو بطولة ، أو حتى خيال ، سرد مجرد سرد واقعي يسجل الوقائع ويثبتها في الذاكرة ، إلا ان تلك الذاكرة كانت تغربل وتنقح وتختار لحظتها وموضوعها ، وهي بالتالي إنتقائية . فالذاكرة هي إعادة إنتاج للواقع بحسب فهمنا للذات وللآخر .

هكذا خطرت لي فكرة هذا الموضوع ، إعادة إنتاج التاريخ من خلال السيرة الذاتية . وهذا ما سأحاول الكتابة فيه ، لكن ليس لوحدي : أدعو الجميع للمشاركة في هذا الملف من منطلق إعادة كتابة تواريخنا الشخصية : عبرها ، ستتبدى لنا أشياء كثيرة كانت مطوية في غياهب النسيان ، وستفتح لنا ربما شبابيك على الحاضر لو استطعنا أن نمسك بتلابيب الماضي ونستقرأ أبعاده .

اعتبروا هذا الملف كأنه صندوق تبرعات ، وليتبرع لنا كل واحد بحكاية من طفولته أو تاريخه الحاضر ، أو حتى تاريخ عائلته . كل المطلوب هو أن تكون هذه القصة واقعية ومختصرة ، وأن يجهد قليلاً في جعلها ممتعة لدى قراءتها .

أتمنى لنا حظاً سعيداً .

 

شاهد التعليقات الأخرى حول هذا الموضوع
أضف تعليقك
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
المختار من الطبائع3    كن أول من يقيّم
 
 
الاستبداد والإنسان
 
 
عاش الإنسان دهرا طويلاً يتلذذ بلحم الإنسان ويتلمظ بدمائه, إلى أن تمكن الحكماء في الصين ثم الهند من إبطال أكل اللحم كلياً سداً للباب, كما هو دأبهم إلى الآن. ثم جاءت الشرائع الدينية الأولى في غربي آسيا بتخصيص ما يؤكل من الإنسان بأسير الحرب ثم بالقربان ينذر للمعبود ويذبح على يد الكهان. ثم أبطل أكل لحم القربان وجعل طعمة للنيران, وهكذا تدرج الإنسان إلى نسيان لذة لحم إخوانه, وما كان لينسى عبادة إهراق الدماء لولا أن إبراهيم, شيخ الأنبياء, استبدل قربان البشر بالحيوان واتبعه موسى عليه السلام وبه جاء الإسلام.
وهكذا بطل هذا العدوان بهذا الشكل إلا في أواسط أفريقيا عند (النامنام).
 
الاستبداد المشؤوم لم يرضَ أن يقتل الإنسان الإنسان ذبحاً ليأكل لحمه, أكلاً كما كان يفعل الهمج الأوّلون, بل تفنّن في الظلم, ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم, ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم, أو بغصب ثمرات أتعابهم. وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل.
 
إن بحث الاستبداد والمال بحث قوي العلاقة بالظلم القائم في فطرة الإنسان, ولهذا رأيتُ أن لا بأس في الاستطراد لمقدمات تتعلّق نتائجها بالاستبداد الاجتماعي المحميِّ بقلاع الاستبداد السياسي, فمن ذلك:
 
إن البشر المقدّر مجموعهم بألف وخمسمائة مليون (لعهد الكواكبي) نصفهم كَلٌّ على النصف الآخر, ويشكل أكثرية هذا النصف الكَلِّ نساء المدن.
ومَن النساء? النساء هنَّ النوع الذي عرف مقامه في الطبيعة بأنه هو الحافظ لبقاء الجنس, وأنه يكفي للألف منه ملقح واحد, وأن باقي الذكور حظهم أن يساقوا للمخاطر والمشاق أو هم يستحقون ما يستحقه ذكر النحل, وبهذا النظر اقتسمت النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى, وتحكمن بسن قانون عام به جعلن نصيبهن هين الأشغال  بدعوى الضعف, وجعلن نوعهن مطلوباً عزيزاً بإيهام العفة, وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن مَحمدتين في الرجال, وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ويظلم أو يظلم فيعان, وعلى هذا القانون يربين البنات والبنين, ويتلاعبن بعقول الرجال كما يشأن حتى أنهن جعلن الذكور يتوهمون أنهن أجمل منهم صورة. والحاصل أنه قد أصاب من سماهن بالنصف المضر, ومن المشاهد أن ضرر النساء بالرجال يترقى مع الحضارة والمدنية على نسبة الترقي المضاعف. فالبدوية تشارك الرجل مناصفة في الأعمال والثمرات فتعيش كما يعيش, والحضرية تسلب الرجل لأجل معيشتها وزينتها اثنين من ثلاث وتعينه في أعمال البيت, والمدنية تسلب ثلاثة من أربعة وتود أن لا تخرج من الفراش, وهكذا تترقى بنات العواصم في أسر الرجال. وما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبا أن تسمى المدنية النسائية لأن الرجال فيها صاروا أنعاما للنساء.
 
ثم إن الرجال تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة أيضا, فإن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة, يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة, ينفقون ذلك في الرفه والإسراف, مثال ذلك أنهم يزينون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحياناً متراوحين بين الملاهي والمواخير, ولا يفكرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام.
 
ثم أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون والمحتكرون وأمثال هذه الطبقة, ويقدرون كذلك بخمسة في المائة, يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع.
وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظالمة هي الاستبداد لا غيره. وهناك أصناف من الناس لا يعملون إلا قليلاً, إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة و المشعوذين باسم الأدب أو الدين, وهؤلاء يقدرون بخمسة عشر في المائة أو يزيدون على أولئك.
 
نعم لا يقتضي أن يتساوى العالمُ الذي صرف زهرة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم في ظل الحائط, ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل, ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت, بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته ويقاربه في معيشته ويعينه على الاستقلال في حياته.
 
لا, لا, لا يطلب الفقير معاونة الغني, إنما يرجوه أن لا يظلمه, ولا يلتمس منه الرحمة, إنما يلتمس العدالة, لا يؤمّل منه الإنصاف, إنما يسأله أن لا يميته في ميدان مزاحمة الحياة.
بسط المولى, جلّت حكمته, سلطان الإنسان على الأكوان فطغى وبغى ونسي ربه وعبد المال والجمال وجعلهما منيته ومبتغاه, كأنه خُلق خادماً لبطنه وعضوه فقط, لا شأن له غير الغذاء والتحاكّ, وبالنظر إلى أن المال هو الوسيلة الموصلة للجمال كاد ينحصر أكبر همّ للإنسان في جمع المال, ولهذا يُكنى عنه بمعبود الأمم وبسرِّ الوجود, وروى (كريسكوا), المؤرخ الروسي, أن كاترينا شكت كسل رعيتها فأرشدها شيطانها إلى حمل النساء على الخلاعة ففعلت وأحدثت كسوة المراقص, فهب الشبان للعمل وكسب المال لصرفه على ربات الجمال, وفي ظرف خمس سنين تضاعف دخل خزينتها فاتسع لها مجال الإسراف. وهكذا المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال.
 
طه أحمد
15 - أغسطس - 2007
أضف تعليقك