سورة الأنعام
مكية وآياتها خمس وستون ومائة
بين يدي السورة
سورة الأنعام إحدى السور المكية الطويلة التي يدور محورها حول العقيدة وأصول الايمان وهي تختلف في أهدافها ومقاصدها عن السور المدنية التي سبق الحديث عنها كالبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، فهي لم تعرض لشيء من الاحكام التنظيمية لجماعة المسلمين ، كالصوم ، والحج والعقوبات ، وأحكام الاسرة ، ولم تذكر أمور القتال ومحاربة الخارجين على دعوة الاسلام ، كما لم تتحدث عن أهل الكتاب من إليه ود والنصارى ولا على المنافقين ، وإنما تناولت القضايا الكبرى الأساسية لأصول العقيدة والايمان ، وهذه القضايا يمكن تلخيصها فيما يلى :
1 - قضية الألوهية
2 - قضية الوحى والرسالة
3 - قضية البعث والجزاء .
* نجد الحديث في هذه السورة مستفيضا يدور بشدة حول هذه الأصول الأساسية للدعوة الاسلامية ، ونجد سلاحها في ذلك الحجة الدامغة ، والدلائل الباهرة ، والبرهان القاطع في طريق الإلزام والاقناع ، لأن السورة نزلت في مكة على قوم مشركين . ومما يلفت النظر في السورة الكريمة أنها عرضت لأسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بهذه الكثرة فى غيرها من السور هما :
1 - اسلوب التقرير
2 - اسلوب التلقين .
* أما الأول : " اسلوب التقرير " فإن القرآن يعرض الأدلة المتعلقة بتوحيد الله ، والدلائل المنصوبة على وجوده وقدرته ، وسلطانه وقهره ، في صورة الشأن المسلم ، ويضع لذلك ضمير الغائب عن الحسن الحاضر في القلب الذي لا يماري فيه قلب سليم ، ولا عقل راشد ، في انه تعالى المبدع للكائنات ، صاحب الفضل والإنعام ، فيأتى بعبارة (هو " الدالة على الخالق المدبر الحكيم ، استمع قوله تعالى [ هو الذي خلقكم من طين ] . . [ وهو الله في السموات والأرض ] . . [ وهو الذي يتوفاكم بالليل ] . . [ وهو القاهر فوق عباده ] . . [ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق . . . ] الخ .
* أما الثانى : " اسلوب التلقين " فإنه يظهر جليا في تعليم الرسول (ص) تلقين الحجة ، ليقذف بها في وجه الخصم بحيث يأخذ عليه سمعه ، ويملك عليه قلبه فلا يستطيع التخلص أو التفلت منها ، ويأتى هذا الاسلوب بطريق السؤال والجواب ، يسألهم ثم يجيب ، استمع إلى الآيات الكريمة [ قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ] . . [ قل أى شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم ] . . [ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من اله غير الله يأتيكم به ] . [ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل ان الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ] وهكذا تعرض السورة الكريمة لمناقشة المشركين ، وإفحامهم بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة ، التي تقصم ظهر الباطل . ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن في تركيز الدعوة الإسلامية ((يقول الامام الرازي : " امتازت هذه السورة بنوعين من الفضيلة : أحدهما أنها نزلت دفعة واحدة ، وثانيهما أنه شيعها سبعون ألفا من الملائكة ، والسبب في هذا الامتياز أنها مشتملة على دلائل التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والمعاد ، وابطال مذاهب المبطلين والملحدين " ويقول الإمام القرطبي : إن هذه السورة اصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة )) ، تقرر حقائقها ، وتثبت دعائمها ، وتفند شبه المعارضين لها ، بطريق التنويع العجيب في المناظرة والمجادلة ، فهي تذكر توحيد الله جل وعلا في الخلق والإيجاد ، وفي التشريع والعبادة ، وتذكر موقف المكذبين للرسل ، وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم السابقين ، وتذكر شبههم في الوحي والرسالة ، وتذكر يوم البعث والجزاء ، وتبسط كل هذا بالتنبيه إلى الدلائل في الأنفس والأفاق ، وفي الطبائع البشرية وقت الشدة والرخاء . وتذكر أبا الأنبياء إبراهيم وجملة من أبنائه الرسل ، وترشد الرسول (ص) إلى اتباع هداهم وسلوك طريقهم ، في احتمال المشاق وفي الصبر عليها ، وتعرض لتصوير حال المكذبين يوم الحشر ، وتفيض في هذا بألوان مختلفة . ثم تعرض لكثير من تصرفات الجاهلية التي دفعهم إليها شركهم فيما يختص بالتحليل والتحريم وتقضي عليه بالتفنيد والإبطال ، ثم تختم السورة بعد ذلك - في ربع كامل - بالوصايا العشر التي نزلت في كل الكتب السابقة ، ودعا إليها جميع الأنبياء السابقين [ قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم . . ] الآية . وتنتهي بآية فذة تكشف للإنسان عن مركزه عند ربه في هذه الحياة ، وهو أنه خليفة في الأرض ، وأن الله سبحانه جعل عمارة الكون ، تحت يد الإنسان تتعاقب عليها أجياله ، ويقوم اللاحق منها مقام السابق ، وأن الله سبحانه قد فاوت في المواهب بين أفراد الإنسان لغاية سامية وحكمة عظيمة وهي " الابتلاء والاختبار " في القيام بتبعات هذه الحياة ، وذلك شأن يرجع إليه كما له المقصود من هذا الخلق وذلك النظام [ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سربع العقاب وإنه لغفور رحيم ] .
التسمية :
سميت ب " سورة الأنعام " لورود ذكر الأنعام فيها [ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . . ] ولأن أكثر أحكامها الموضحة لجهالات المشركين مذكورة فيها ، ومن خصائصها ما روي عن ابن عباس انه قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا ، جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح .
تفسيرسورة الأنعام
قال الله تعالى : [ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض . . إلى . . وهو الحكيم الخبير ] من آية (1 ) إلى نهاية آية (18 ) .
اللغة :
[ يعدلون ] يسؤون به غيره ، ويجعلون له عدلا وشريكا يقال : عدل فلانا بفلان أى سواه به
[ تمترون ] تشكون يقال امترى في الأمر إذا شك فيه
[ قرن ] القرن : الأمة المقترنة في مدة من الزمان ، ومنه حديث " خير القرون قرني " وأصل القرن مائة سنة ثم أصبح يطلق على الأمة من الناس التي تعيش في ذلك العصر ، قال الشاعر : إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم وخلفت في قرني فأنت غريب
[ مدرارا ] غزيرة دائمة
[ قرطاس ] القرطاس : الصحيفة التى يكتب فيها
[ لبسنا ] خلطنا يقال لبست عليه الأمر أى خلطته عليه حتى اشتبه
[ حاق ] نزل بهم وأصابهم
[ وليا ] ناصرا ومعينا .
سبب النزول :
روي أن مشركى مكة قالوا : يا محمد والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله ، فأنزل الله [ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ] .
التفسير :
[ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ] بدأ تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه ، تعليما لعباده أن يحمدوه بهذه الصيغة ، الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال ، وإعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد ، فلا بدله ولا شريك ، ولا نظير ولا مثيل ومعنى الآية : احمدوا الله ربكم المتفضل عليكم بصنوف الأنعام والإكرام ، الذي أوجد وأنشأ وابتدع خلق السموات والأرض ، بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع ، وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة ، بما يدهش العقول وا لأفكار ، تبصرة وذكرى لأولي الأبصار
[ وجعل الظلمات والنور ] أى وأنشا الظلمات وا لأنوار وخلق الليل والنهار يتعاقبان في الوجود لفائدة العوالم ، بما لا يدخل تحت حصر أو فكر ، وجمع الظلمات لأن شعب الضلال متعددة ، ومسالكه متنوعة ، وأفرد النور لأن مصدره واحد هو الرحمن منور الأكوان . قال في التسهيل : وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار ، وقولهم إن الخير من النور والشر من الظلمة ، فإن المخلوق لا يكون إلها ، ولا فاعلا لشيء من الحوادث
[ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ] أى ثم بعد تلك الدلائل الباهرة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته ، يشرك الكافرون بربهم ، فيسأوون به أصناما نحتوها بأيديهم ، وأوهاما ولدوها بخيالهم ، ففي ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم ، قال ابن عطية : والآية دالة على قبح فعل الكافرين ، لأن المعنى : أن خلقه السموات والأرض وغيرها قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمنى ؟ أى بعد وضوح هذا كله
[ هو الذي خلقكم من طين ] أى خلق أباكم آدم من طين
[ ثم قضى أجلا ] أى حكم وقدر لكم أجلا من الزمن تموتون عند انتهائه
[ وأجل مسمى عنده ] أى وأجل آخر مسمى عنده لبعثكم جميعا ، فالأجل الأول : الموت ، والثاني : البعث والنشور
[ ثم أنتم تمترون ] أى ثم أنتم أيها الكفار تشكون في البعث وتنكرونه ، بعد ظهور تلك الدلائل والبراهين القاطعة
[ وهو الله في السموات وفي الأرض ] أى هو الله المعظم المعبود في السموات والأرض . قال ابن كثير : أى يعبده ويوحده ويقر له بالألوهية من في السموات وا لأرض ، ويدعونه رغبا ورهبا ، ويسمونه (الله )
[ يعلم سركم وجهركم ] أى يعلم سركم وعلنكم
[ ويعلم ما تكسبون ] أى من خير أو شر ، وسيجازيكم عليه . . ثم أخبر تعالى عن عنادهم وإعراضهم فقال
[ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ] أى ما يظهر لهم دليل من الأدلة ، أو معجزة من المعجزات ، أو آية من آيات القرآن
[ إلا كانوا عنها معرضبن ] أى إلا تركوا النظر فيها ولم يلتفتوا إليها . قال القرطبي : والمراد تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله عز وجل ، والمعجزات التي أقامها لنبيه (ص) التى يستدل بها على صدقه ، في جميع ما أتى به عن ربه
[ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ] أى كذبوا بالقرآن الذي جاءهم من عند الله
[ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون ] أي سوف يحل بهم العقاب إن عاجلا أو آجلا ، ويظهر لهم خبر ما كانوا به يستهزءون ، وهذا وعيد لهم بالعذاب ، والعذاب على استهزائهم . . ثم حضهم تعالى على الاعتبار بمن سبقهم من الأمم فقال سبحانه :
[ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ] أى ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم الأنبياء ؟ ألم يعرفوا ذلك ؟
[ مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ] أى منحناهم من أسباب السعة والعيش ، والتمكين في الأرض ، ما لم نعطكم يا أهل مكة
[ وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ] أى أنزلنا المطر غزيرا متتابعا يدر عليهم درا
[ وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ] أى من تحت أشجارهم ومنازلهم ، حتى عاشوا في الخصب والريف ، بين الأنهار والبحار
[ فأهلكناهم بذنوبهم ] أى فكفروا وعصوا فأهلكناهم بسبب ذنوبهم ، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم في الأرض
[ وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ] أى أحدثنا من بعد إهلاك المكذبين ، قوما آخرين غيرهم ، قال ابو حيان : وفيه تعريض للمخاطبين بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم
[ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ] أى لو ئزلنا عليك يا محمد كتابا مكتوبا على ورق كما اقترحوا
[ فلمسوه بأيديهم ] أى فعاينوا ذلك ومسوه باليد ، ليرتفع عنهم كل إشكال ، ويزول كل ارتياب
[ لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ] أى لقال الكافرون عند رؤية تلك الآية الباهرة تعنتا وعنادا : ما هذا إلا سحر واضح ! ! والغرض أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات وأظهر الدلائل
[ وقالوا لولا أنزل عليك ملك ] أى هلا أنزل على محمد ملك يشهد بنبوته وصدقه ، و[ لولا ] بمعنى " هلا " للتحضيض ، قال أبو السعود : أى هلا أنزل عليه ملك ، بحيث نراه ويكلمنا أنه نبى ؟ وهذا من أباطيلهم المحققة وخرافاتهم الملفقة ، التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل ، وعيبت بهم العلل
[ ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ] أى لو أنزلنا الملك كما اقترحوا وعاينوه ، ثم كفروا لحق إهلاكهم ((وقيل : المعنى لو أنزلنا ملكا لماتوا من هول رؤيته إذ لا يطيقون رؤيته وهو منقول عن ابن عباس كذا في القرطبي )) ، كما جرت عادة الله ، بأن من طلب آية ثم لم يؤمن بها ، أهلكه الله حالا
[ ثم لا ينظرون ] أى ثم لا يمهلون ولا يؤخرون ، والآية كالتعليل لعدم اجابة طلبهم ، فإنهم - في ذلك الإقتراح - كالباحث عن حتفه بظلفه
[ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ] أى لو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل ، لأنهم لا طاقة لهم برؤية الملك في صورته الملكية
[ وللبسنا عليهم ما يلبسون ] أى لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم ، فإنهم لو رأوا الملك في صورة إنسان ، لقالوا هذا إنسان وليس بملك ، قال ابن عباس : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل ، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور ، ثم قال تعالى تسلية للنبى (ص) :
[ ولقد استهزىء برسل من قبلك ] أى والله لقد استهزأ الكافرون من كل الأمم ، بأنبيائهم الذين بعثوا إليهم
[ فحاق بالذين سخروا منهم ماكانوا به يستهزءون ] أى أحاط ونزل بهؤلاء المستهزئين بالرسل عاقبة استهزائهم ، وفي هذا الإخبار تهديد للكفار
[ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ] اي قل يا أيها الرسول لهؤلاء المستهزئين الساخرين : سافروا في الأرض فانظروا وتأملوا مإذا حل بالكفرة قبلكم ، من العقاب وأليم العذاب ، لتعتبروا بآثار من خلا من الأمم كيف أهلكهم الله وأصبحوا عبرة للمعتبرين
[ قل لمن ما في السموات والأرض ] أى قل يا محمد : لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا ؟ والسؤال لإقامة الحجة على الكفار ، فهو سؤال تبكيت
[ قل لله ] أى قل لهم تقريرا وتنبيها هي لله ، لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة لأنه خالق الكل ، إما بإعترافهم ، أو بقيام الحجة عليهم
[ كتب على نفسه الرحمة ] أى ألزم نفسه الرحمة تفضلا وإحسانا والغرض التلطف في دعائهم إلى الإيمان وإنابتهم إلى الرحمن
[ ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ] أى ليحشرنكم من قبوركم مبعوثين إلى يوم القيامة الذي لا شك فيه ليجازيكم بأعمالكم
[ الذين خسروا أنغسهم فهم لا يؤمنون ] أى أضاعوها بكفرهم وأعمالهم السيئة في الدنيا ، فهم لا يؤمنون ولهذا لا يقام لهم وزن في الآخرة ، وليس لهم نصيب فيها سوى الجحيم والعذاب الأليم
[ وله ما سكن في الليل والنهار ] أى لله عز وجل ما حل واستقر في الليل والنهار ، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه ، والمراد عموم ملكه تعالى لكل شىء
[ وهو السميع العليم ] أى السميع لأقوال العباد ، العليم بأحوالهم
[ قل أفغير الله أتخذ وليا ] الاستفهام للتوبيخ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أغير الله أتخذ معبودا ؟
[ فاطر السموات والأرض ] أى خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق
[ وهو يطعم ولا يطعم ] أى هو جل وعلا يرزق ولا يرزق ، قال ابن كثير : اي هو الرازق لخلقه من غير احتياج إليهم
[ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ] أى قل لهم يا محمد : إن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم لله من هذه الأمة
[ ولا تكونن من المشركين ] أى وقيل لي : لا تكونن من المشركين ، قال الزمخشري ومعناه : أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك
[ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ] أى قل لهم أيضا : إنني أخاف إن عبدت غير ربي عذاب يوم عظيم ، هو يوم القيامة
[ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ] أى من يصرف عنه العذاب فقد رحمه الله
[ وذلك هو الفوز المبين ] أى النجاة الظاهرة
[ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ] أى إن تنزل بك يا محمد شدة ، من فقر أو مرض ، فلا رافع ولا صارف له إلا هو ، ولا يملك كشفه سواه
[ وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ] أى وإن يصبك بخير من صحة ونعمة ، فلا راد له ، لأنه وحده القادر على إيصال الخير والضر ، قال في التسهيل : والآية برهان على الوحدانية ، لانفراد الله تعالى بالضر والخير ، وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين
[ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ] قال ابن كثير : أى هو الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الجبابرة ، وعنت له الوجوه ، وقهر كل شيء ، وهو الحكيم في جميع أفعاله ، الخبير بواضع الأشياء) .
البلاغة :
1 - [ الحمد لله ] الصيغة تفيد القصر أى لا يستحق الحمد والثناء إلا الله رب العالمين ، فهو من باب قصر (صفة على موصوف ).
2 - [ جعل الظلمات والنور ] فيه من المحسنات البديعية الطباق .
3 - [ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ] اسلوب تعجيب واستبعاد أن يعدلوا به غيره ، بعد وضوح آيات قدرته ، ووضع الرب [ ربهم ] موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح عليهم ، إذ يشركون بربهم الجليل الذي خلقهم ورباهم ، . ، ما لا يسمع ولا ينفع ! !
4 - [ سركم وجهركم ] بينهما طباق .
5 - [ من قرن ] أى أهل قرن فهو (مجاز مرسل ) على حذف مضاف .
6 - [ وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ] المراد بالسماء المطر ، عبر عنه بالسماء لأنه ينزل من السماء .
7 - [ استهزىء برسل ] تنكير رسل للتفخيم والتكثير.
8 - [ السميع العليم ] من صيغ المبالغة ، لأن فعيل " من صيغ المبالغة .
فائدة :
في القرآن العظيم خمس سور ابتدأت ب [ الحمد لله ] وهي سورة الفاتحة [ الحمد لله رب العالمين ] والأنعام [ الحمد لله الذي خلق السموات والأرضر ] وسورة الكهف [ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ] وسورة سبأ [ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ] وسورة فاطر [ الحمد لله فاطر السموات والأرض ] والغرض منها تعليم العباد حمد الله والثناء عليه
قال الله تعالى : [ قل أى شيء أكبر شهادة قل الله . . إلى . . فلا تكونن من الجاهلين ] من آية (19) الى نهاية آية (35) .
المناسبة :
لما أفاض جل ذكره في إقامة الدلائل والبراهين على قدرته ووحدانيته من أول السورة الكريمة ، ذكر هنا شهادته تعالى على صدق نبوة محمد عليه السلام ، ثم ذكر موقف الجاحدين للقرآن المكذبين للوحي ، وحسرتهم الشديدة يوم القيامة .
اللغة :
[ لأنذركم ] الإنذار : إخبار فيه تخويف
[ فتنتهم ] الفتنة الاختبار
[ أكنة ] جمع كنان وهو الغطاء
[ وقرا ] ثقلا ، يقال : وقرت أذنه إذا ثقلت أو صمت
[ أساطير ] خرافات وأباطيل ، جمع أسطورة ، قال الجوهري : الأساطير : الأباطيل والترهات
[ ينأون ] يبعدون يقال : نأى عنه إذا ابتعد
[ بغتة ] فجأة يقال : بغته إذا فجأه
[ فرطنا ] فرط : قصر مع القدرة على ترك التقصير ، قال ابو عبيدة : فط : ضيع
[ أوزارهم ] ذنوبهم جمع وزر
[ يزرون ] يحملون
[ لهو ] اللهو : صرف النفس عن الجد إلى الهزل ، وكل ما شغلك فقد ألهاك .
سبب النزول :
ا- روي أن رؤساء مكة قالوا يا محمد : ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة ، ولقد سألنا عنك إليه ود والنصارى فزعموا ان ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد لك أنك رسول كما تزعم ؟ فأنزل الله [ قل أى شيء أكبر شهادة ؟ قل الله شهيد بيني وبينكم . . ] الآية .
ب - عن ابن عباس ان " ابا سفيان " و " الوليد بن المغيرة " والنضر بن الحارث " جلسوا إلى رسول الله ، وهو يقرأ القرآن ، فقالوا للنضر : ما يقول محمد ؟ فقال أساطير الأولين ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، فأنزل الله [ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه . . ] الآية .
ج -روي ان " الاخنس بن شريق التقى بى " أبى جهل بن هشام ، فقال له : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا! ؟ فقال ابو جهل : والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب " بنو قصي ، باللواء ، والسقاية ، والحجابة ، والنبوة ، فمإذا يكون لسائر قريش ؟ فأنزل الله [ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك . . ] الآية .
التفسير :
[ قل أى شيء أكبر شهادة ] أى قل لهم يا محمد أى شيء أعظم شهادة ، حتى يشهد لي بأني صادق في دعوى النبوة ؟
[ قل الله شهيد بيني وبينكم ] أى أجبهم أنت وقل لهم : الله يشهد لي بالرسالة والنبوة ، وكفى بشهادة الله بيني وبينكم ، فهي أعظم شهادة على صدق رسالتي .
[ وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ] أى وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة ، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة ، قال ابن جزقي : والمقصود بالآية الإستشهاد بالله - الذي هو أكبر شهادة-على صدق رسول الله (ص) وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد (ص) وإظهار معجزته الدالة على صدقه
[ أإنكم لتشهدون إن مع الله آلهة أخرى ] إستفهام توبيخ أى أئنكم أيها المشركون لتقرون بوجود آلهة مع الله ؟ فكيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الآدلة ، وقيام الحجة على وحدانية الله ؟
[ قل لا أشهد ] أى قل لهم لا أشهد بذلك
[ قل إنما هو إله واحد ] أى قل يا محمد إنما أشهد بأن الله واحد أحد فرد صمد
[ وإننى بريء مما تشركون ] أى وأنا بريء من هذه الأصنام . . ثم ذكر تعالى أن الكفار بين جاهل ومعاند فقال
[ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ] يعني إليه ود والنصارى الذين عرفوا وعاندوا ، يعرفون النبي (ص) بحليته ونعته ، على ما هو مذكور في التوراة والإنجيل ، كما يعرف الواحد منهم ولده ، لا يشك في ذلك أصلا ، قال الزمخشري : وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب وبصحة نبوته
[ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ] أي أولئك هم الخاسرون ، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد (ص) بعد وضوح الآيات
[ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ] الاستفهام إنكاري ومعناه النفي ، أى لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب ، أو كذب بالقرآن والمعجزات الباهرة ، وسماها سحرا ، وكلمة [ أو ] للإيذان بأن كلا من الافتراء والتكذيب وحده ، بالغ غاية الإفراط في الظلم ، فكيف وهم قد جمعوا بينهما ، فأثبتوا ما نفاه الله ، ونفوا ما أثبته ! قاتلهم الله أنى يؤفكون
[ إنه لا يفلح الظالمون ] أى لا يفلح المفتري ولا المكذب ، وفيه إشارة إلى أن مدعي الرسالة لو كان كاذبا ، لكان مفتريا على الله ، فلا يكون محلا لظهور المعجزات
[ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا ] أى اذكر يوم نحشرهم جميعا للحساب ، ونقول لهم على رءوس الأشهاد
[ أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ] أى أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله ؟ والمراد من الاستفهام التوبيخ و[ تزعمون ] أى تزعمونهم آلهة وشركاء مع الله ، فحذف المفعولان ، ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها
[ ثم لم تكن فتنتهم ] أى لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق
[ إلا ان قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ] أى أقسموا كاذبين بقولهم : والله يا ربنا ما كنا مشركين ، قال القرطبي : تبرءوا من الشرك وانتفوا منه ، لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين ، قال ابن عباس : يغفر الله لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فإذا رأى المشركون ذلك ، قالوا تعالوا نقول : إتا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين ، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم ، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون
[ أنظر كيف كذبوا على أنفسهم ] أى أنظر يا محمد كيف كذبوا على أنفسهم ، بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب ، وهذا للتعجيب من كذبهم الصريح
[ وضل عنهم ما كانوا يفترون ] أى تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم ، وغاب عنهم ما كانوا يفترونه على الله من الشركاء . . ثم وصف تعالى حال المشركين حين استماع القرآن فقال سبحانه
[ ومنهم من يستمع إليك ] أي ومن هؤلاء المشركين من يصغي إليك يا محمد حين تتلو القرآن
[ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ] أى جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن
[ وفي آذانهم وقرا ] أى ثقلا وصمما يمنع من السمع ، قال ابن جزي : والمعنى أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه ، وعبر بالأكنة والوقر مبالغة
[ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ] أى مهما رأوا من الآيات والحجج والبينات ، لا يؤمنوا بها لفرط العناد
[ حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ] أى بلغوا من التكذيب والمكابرة ، إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين يقولون عن القرآن : ما هذا إلا خرافات وأباطيل الأولين
[ وهم ينهون عنه وينأون عنه ] أى هؤلاء المشركون المكذبون ينهون الناس عن القرآن ، وعن اتباع محمد عليه السلام ، ويبتعدون هم عنه
[ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ] أى وما يهلكون بهذا الصنيع إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك ، قال ابن كثير : فهم قد جمعوا بين الفعلين القبيحين ، لا ينتفعون ، ولا يدعون أحدا ينتفع ، ولا يعود وباله إلا عليهم وما يشعرون
[ ولو ترى إذ وقفوا على النار ] أى لو ترى يا محمد هؤلاء المشركين ، حين عرضوا على النار ، لرأيت أمرا عظيما تشيب لهوله الرءوس ، قال البيضاوي : وجواب [ لو ] محذوف تقديره لرأيت أمرا شنيعا ) وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع
[ قالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ] أى تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليعملوا عملا صالحا ، ولا يكذبوا بآيات الله
[ ونكون من المؤمنين ] أى إذا رجعنا إلى الدنيا نصدق ، ونؤمن بالله إيمانا صادقا ، فتمنوا العودة ليصلحوا العمل ويتداركوا الزلل ، قال تعالى ردا لذلك التمني
[ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ] أى ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم فتمنوا ذلك
[ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وأنهم لكاذبون ] أى لو ردوا على سبيل الفرض لأنه لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت لعادوا إلى الكفر والضلال ، وإنهم لكاذبون في وعدهم بالإيمان
[ وقالوا إن هي الا حياننا الدنيا وما نحن بمبعوثين ] أي قال أولئك الكفار الفجار : ما هي الا هذه الحياة الدنيا ، ولا بعث ولا نشور
[ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ] أى لو ترى حالهم إذ حبسوا للحساب أمام رب العالمين ، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب ، وجواب [ لو ] محذوف للتهويل من فظاعة الموقف
[ قال أليس هذا بالحق ] أى اليس هذا المعاد بحق ؟ والهمزة للتقريع على التكذيب
[ قالوا بلى وربنا ] أى قالوا بلى والله إنه لحق
[ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ] أى ذوقوا العذاب بسبب كفركم في الدنيا وتكذيبكم رسل الله . . ثم أخبر تعالى عن هؤلاء الكفار فقال سبحانه
[ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ] أى لقد خسر هؤلاء المكذبون بالبعث
[ حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ] أى حتى إذا جاءتهم القيامة فجأة ، من غير أن يعرقوا وقتها ، قال القرطبي : سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها
[ قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ] أى قالوا يا ندامتنا على ما قصرنا وضيعنا في الدنيا من صالح الأعمال
[ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ] أي والحال أنهم يحملون أثقال ذنوبهم على ظهورهم ، قال البيضاوي : وهذا تمثيل لإستحقاقهم اصار الأثام وقال [ على ظهورهم ] لأن العادة حمل الأثقال على الظهور ، قال ابن جزي : وهذا كناية عن تحمل الذنوب ، وقيل : أنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة ، فقد روي أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة ، وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتمثل له في أحسن صورة
[ ألا ساء ما يزرون ] أى بئس ما يحملونه من الأوزار
[ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ] أى باطل وغرور ، لقصر مدتها وفناء لذتها
[ وللدار الآخرة خير للذين يتقون ] أى الآخرة وما فيها من أنواع النعيم ، خير لعباد الله المتقين من دار الفناء ، لأنها دائمة لا يزول عنهم نعيمها ، ولا يذهب عنهم سرورها
[ أفلا تعقلون ] أي أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدنيا ؟ ثم سلى تعالى نبيه لتكذيب قومه له فقال سبحانه
[ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ] أى قد أحطنا علما بتكذيبهم لك ، وحزنك وتأسفك عليهم ، قال الحسن : كانوا يقولون إنه ساحر وشاعر ، وكاهن ومجنون
[ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ] أي فإنهم في دخيلة نفوسهم لا يكذبونك ، بل يعتقدون صدقك ولكنهم يجحدون عن عناد ، فلا تحزن لتكذيبهم ، قال ابن عباس : كان رسول الله (ص) يسمى (الأمين ) فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ، ولكنهم كانوا يجحدون فكان ابو جهل يقول : ما نكذبك يا محمد إنك عندنا لمصدق ، وإنما نكذب ما جئتنا به
[ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا ] أى صبروا على ما نالهم من قومهم من التكذيب والاستهزاء
[ وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ] أى وأوذوا في الله حتى نصرهم الله ، وفي الآية إرشاد له (ص) إلى الصبر ، ووعد له بالنصر
[ ولا مبدل لكلمات الله ] قال ابن عباس : أى لمواعيد الله ، وفى هذا تقوية للوعد
[ ولقد جاءك من نبأ المرسلين ] أى ولقد جاءك بعض أخبار المرسلين ، الذين كذبوا وأوذو ا كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم ؟ فتسل ولا تحزن فإن الله ناصرك كما نصرهم
[ وإن كان كبر عليك إعراضهم ] أى إن كان إعراضهم عن الإسلام ، قد عظم وشق عليك يا محمد
[ فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ] أى إن قدرت إن تطلب سربا ومسكنا في جوف الأرض
[ أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ] أى مصعدا تصعد به إلى السماء ، فتأتيهم بآية مما اقترحوه فافعل
[ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ] أى لو أراد الله لهداهم إلى الإيمان ، فلا تكونن يا محمد من الذين يجهلون حكمة الله ومشيئته الآزلية.
البلاغة :
1 - [ كما يعرفون أبناءهم ] فيه تشبيه يسمى " المرسل المجمل " .
2 - [ الذين كنتم تزعمون ] فيه إيجاز بالحذف أى تزعمونهم شركاء .
3 - [ انظر كيف كذبوا ] الصيغة للتعجيب من كذبهم الغريب .
4 - [ وفي آذانهم وقرا ] عبر بالأكنة في القلوب والوقر في الآذان ، وهو تمثيل بطريق الاستعارة لإعراضهم عن القرآن ، حيث شبههم بالعمي والصم .
5 - [ يقول الذين كفروا ] وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل الكفر عليهم .
6 - [ ينهون وينأون ] بينهما من المحسنات البديعية (الجناس الناقص ) .
7 - [ وإنهم لكاذبون ] وردت الصيغة مؤكدة بمؤكدين " إن " و " اللام " للتنبيه على أن الكذب طبيعتهم .
8 - [ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ] فيه تشبيه بليغ ، حيث جعلت الدنيا نفس اللعب واللهو مبالغة ، كقول الخنساء : " فإنما هي إقبال وإدبار ، .
9 - [ أفلا تعقلون ] الاستغهام للتوبيخ .
10 - [ كذبت رسل ] تنوين رسل للتفخيم والتكثير .
تنبيه :
قال الإمام الفخر : قوله تعالى [ ولو ترى إذ وقفوا على النار ] يقتضى له جوابا ، وقد حذف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن ، وأشباهه كثير في القرآن والشعر ، وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره ، ألا ترى أنك لو قلت لغلامك : والله لئن قمت إليك - وسكت عن الجواب - ذهب فكره إلى أنواع المكروه من الضرب ، والقتل ، والكسر ، وعظم خوفه لأنه لم يدر أى الاقسام تبغي ، ولو قلت : والله لئن قمت إليك لأضربنك ، فأتيت بالجواب لعلم أنك لم تبلغ شينا غير الضرب ، فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيرا في حصول الخوف .
قال الله تعالى : [ إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله . . إلى . . والله أعلم بالظالمين ] من آية (36) إلى نهاية آية (58) .
المناسبة :
لما ذكر الله تعالى إعراض المشركين عن القرآن وعن الإيمان بالنبى عليه السلام ، ذكر في هذه الآيات السبب في ذلك ، وهو أن القرآن نور وشفاء يهتدي به المؤمنون ، وأما الكافرون فهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يستجيبون ، ثم ذكر اقتراح المشركين بعض الآيات ، وشبههم بالصم البكم الذين لا يعقلون .
اللغة :
[ تضرعوا ] التضرع من الضراعة وهي الذلة
[ الباساء ] من البؤس وهو الفقر
[ الضراء ] من الضر وهو البلاء ، قال القرطبي : الباساء في الأموال ، والضراء في الأبدان ، هذا قول الاكثر
[ مبلسون ] المبلس : اليائس من الخير ، من أبلس الرجل إذا يئس ، ومنه " إبليس " لأنه أبلس من رحمة الله عز وجل
[ دابر ] الدابر : الآخر ودابر القوم : خلفهم من نسلهم ، قال قطرب : يعني استؤصلوا وأهلكوا ، قال الشاعر : فاهلكوا بعذاب حصق دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا
[ يصدفون ] صدف عن الشيء أعرض عنه
[ تطرد ] الطرد : الإبعاد مع الاهانة
[ الفاصلين ] ا لحا كمين .
سبب النزول :
عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله (ص) وعنده (صهيب ، وخباب ، وبلال ، وعمار) وغيرهم من ضعغاء المسلمين ، فقالوا يا محمد : أرضيت بهؤلاء من قومك ! أفنحن نكون تبعا لهم ! أهؤلاء الذين من الله عليهم ! اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك ، فأنزل الله تعالى [ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ] الآية
التفسير :
[ إنما يستجيب الذين يسمعون ] أى إنما يستجيب للإيمان الذين يسمعون سماع قبول وإصغاء ، وهنا تم الكلام ، ثم ابتدأ فقال
[ والموتى يبعثهم الله ] قال ابن كثير : يعنى بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب ، فشبههم الله بأموات الأجساد ، وهذا من باب التهكم بهم والازراء عليهم ( ، وقال الطبري : يعني والكفار يبعثهم الله مع الموتى ، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا ، ولا يعقلون دعاء ، ولا يفقهون قولا ، إذ كانوا لا يتدبرون حجج الله ، ولا يعتبرون بآياته ، ولا يتذكرون فينزجرون عن تكذيب رسل الله
[ ثم إليه يرجعون ] أى ثم مرجعهم إلى الله فيجازيهم بأعمالهم
[ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ] أى قال كفار مكة : هلا نزل على محمد معجزة تدل على صدقه ؟ كالناقة ، والعصا ، والمائدة ؟ قال القرطبي : وكان هذا منهم تعنتا بعد ظهور البراهين ، وإقامة الحجة بالقرآن ، الذي عجزوا أن يأتوا بسورة من مثله
[ قل إن الله قادر على أن ينزل آية ] أى هو تعالى قادر على أن يأتيهم بما اقترحوا
[ ولكن أكثرهم لا يعلمون ] أى لا يعلمون إن إنزالها يستجلب لهم البلاء ، لأنه لو أنزلها وقق ما طلبوا ، ثم لم يؤمنوا ، لعاجلهم بالعقوبة بعذاب الاستثصال ، كما فعل بالأمم السابقة
[ وما من دابة في الأرض ] أى ما من حيوان يمشي على وجه الأرض
[ ولا طائر يطير بجناحيه ] أى ولا من طائر يطير في الجو بجناحيه
[ الا أمم أمثالكم ] أى إلا طوائف مخلوقة مثلكم ، خلقها الله وقدر أحوالها وأرزاقها وأجالها ، قال البيضاوي : والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية
[ ما فرطنا في الكتاب من شيء ] أى ما تركنا وما أغفلنا في القرآن شيئا من أمر الدين ، مما يحتاج الناس إليه في أمورهم إلا بيناه ، وقيل : إن المراد بالكتاب (اللوح المحفوظ ) ويكون المعنى : ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئا فلم نكتبه
[ ثم إلى ربهم يحشرون ] أى يجمعون فيقضي بينهم ، قال الزمخشري : يعني الأمم كلها من الدواب والطير ، فيعرضها وينصف بعضها من بعض ، كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء
[ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ] أى والذين كذبوا بالقرآن فهم (صم ) لا يسمعون كلام الله سماع قبول (بكم ) لا ينطقون بالحق ، ثم هم خائطون في ظلمات الكفر ، قال ابن كثير : وهذا مثل أى مثلهم في جهلهم ، وقلة علمهم ، وعدم فهمهم ، كمثل أصم وهو الذي لا يسمع ، أبكم وهو الذي لا يتكلم ، وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر ، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق ، أو يخرج مما هو قيه
[ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ] أى من يشأ الله إضلاله يضلله ، ومن يشأ هدايته يرشده إلى الهدى ، وبوفقه لدين الإسلام
[ قل أرأيتكم أن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة ] إستفهام تعجيب أى أخبروني إن أتاكم عذاب الله ، كما أتى من قبلكم أو أتتكم القيامة بغتة من تدعون ؟
[ أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ] أى أتدعون غير الله لكشف الضر عنكم ؟ إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم
[ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ] أى بل تخصونه تعالى بدعائكم في الشدائد ، فيكشف الضر الذي تدعونه إلى كشفه إن شاء كشفه
[ وتنسون ما تشركون ] أى تتركون الآلهة فلا تدعونها ، لإعتقادكم أن الله تعالى هو القادر على كشف الضر وحده دون سواه
[ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ] هذه تسلية لرسول الله ، اي والله لقد أرسلنا رسلا إلى أمم كثيرين من قبلك فكذبوهم
[ فأخذناهم بالبأساء والضراء ] أي بالفقر والبؤس والأسقام والأوجاع
[ لعلهم يتضرعون ] أى لكي يتضرعوا إلى الله بالتذلل والإنابة
[ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ] لولا للتحضيض أى فهلا تضرعوا حين جاءهم العذاب ، وهذا عتاب على ترك الدعاء ، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا مع قيام ما يدعوهم إلى التضرع
[ ولكن قست قلوبهم ] أي ولكن ظهر منهم النقيض حيث قست قلوبهم فلم تلن للإيمان
[ وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ] أى زين لهم المعاصي ، والإصرار على الضلال
[ فلما نسوا ما ذكروا به ] أى لما تركوا ما وعظوا به
[ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ] أى من النعم والخيرات إستدراجا لهم
[ حتى إذا فرحوا بما أوتوا ] أى فرحوا بذلك النعيم وازدادوا بطرا
[ أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ] أى أخذناهم بعذابنا فجأة فإذا هم يائسون ، قانطون من كل خير
[ فقطع دابر القوم الذين ظلموا ] أى استؤصلوا وهلكوا عن آخرهم
[ والحمد لله رب العالمين ] أي على نصر الرسل ، وإهلاك الكافرين ، قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة ، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا وفى الحديث (إذا رآيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو إستدراج ثم قرأ [ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ]
[ قل أرأيتم أن اخذ الله سمعكم وأبصاركم ] أى قل يا محمد لهؤلاء المكذبين المعاندين من أهل مكة : أخبرونى لو أذهب الله حواسكم ، فاصمكم وأعماكم
[ وختم على قلوبكم ] أى طبع على قلوبكم ، حتى زال عنها العقل والفهم
[ من اله غير الله يأتيكم به ] أى هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم ، إذا سلبه الله منكم ؟
[ أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ] أى أنظر كيف نبين ونوضح الآيات الدالة على وحدانيتنا ، ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها فلا يعتبرون ؟
[ قل ارآيتكم أن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ] أي قل لهؤلاء المكذبين : أخبروفي إن أتاكم عذاب الله العاجل فجأة ، أو عيانا بالليل أو بالنهار
[ هل يهلك إلا القوم الظالمون ] الإستفهام إنكاري بمعنى النفي أى ما يهلك بالعذاب إلا أنتم لأنكم كفرتم وعاندتم
[ وما نرسل المرسلين إلا مبشربن ومنذرين ] أى ما نرسل الرسل ، إلا لتبشير المؤمنين بالثواب ، وإنذار الكافرين بالعقاب ، وليس إرسالهم ليأتوا بما يقترحه الكافرون من الآيات
[ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] أى فمن آمن بهم وأصلح عمله ، فلا خوف عليهم في الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا ، والمراد أنهم لا يخافون ولا يحزنون ، لأن الآخرة دار السرور والحبور
[ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ] أى وأما المكذبون بآيات الله فيمسهم العذاب الأليم ، بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله ، قال ابن عباس : يفسقون أى يكفرون
[ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ] أى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة الذين يقترحون عليك تنزيل الآيات ، وخوارق العادات : لست أدعى أن خزائن الله مفوضة إلى حتى تقترحوا على تنزيل الآيات ، ولا أدعي أيضا أني أعلم الغيب حتى تسألوني عن وقت نزول العذاب
[ ولا أقول لكم أني ملك ] أى ولست أدعي أني من الملائكة ، حتى تكلفوني الصعود إلى السماء ، وعدم المشي في الأسواق ، وعدم الأكل والشرب ، قال الصاوي : وهذه الآية نزلت حين قالوا له : إن كنت رسولا فأطلب من ربك أن يوسع علينا ، ويغني فقرنا ، وأخبزنا بمصالحنا ومضارنا ! ! فأخبرهم أن ذلك بيد الله سبحانه لا بيده . والمعنى : أني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة ، حتى تجعلوا عدم اجابتي إلى ذلك ، دليلا على عدم صحة رسالتي
[ ان اتبع إلا ما يوحى إلى ] أى ما أتبع فيما أدعوكم إليه إلا وحي الله الذي يوحيه إلى
[ قل هل يستوي الأعمى والبصير ] أى هل يتساوى الكافر والمؤمن والضال والمهتدي ؟
[ افلا تتفكرون ] تقريع وتوببخ أى أتسمعون فلا تتفكرون ؟
[ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ] أى خوف يا محمد بهذا القرآن المؤمنين المصدقين بوعد الله ووعيده ، الذين يتوقعون عذاب يوم الحشر ، قال ابو حيان : وكأنه قيل : أنذر بالقرآن من يرجى ايمانه ، وأما الكفرة المعرضون فدعهم ورأيهم)
[ ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع ] أى ليس لهم غير الله ولى ينصرهم ، ولا شفيع يشفع لهم
[ لعلهم يتقون ] أى أنذرهم لكي يتقوا الكفر والمعاصي
[ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدواة والعشى يريدون وجهه ] أى لا تطرد هؤلاء المؤمنين الضعفاء من مجلسك يا محمد ، الذين يعبدون ربهم دوما في الصباح والمساء ، يلتمسون بذلك القرب من الله ، والدنو من رضاه ، قال الطبري : نزلت الآية في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين ، قال المشركون لرسول الله (ص) : لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك) وأراد النبي ، ذلك طمعا في إسلامهم
[ ما عليك من حسابهم من شيء ] أى لا تؤاخذ بأعمالهم وذنوبهم كقول نوح [ إن حسابهم إلا على ربي ] قال الصاوي : هذا كالتعليل لما قبله ، والمعنى : لا تؤاخذ بذنوبهم ولا بما في قلوبهم إن ارادوا بصحبتك غير وجه الله - وهذا على فرض تسليم ما قاله المشركون - وإلا فقد شهد الله لهم بالإخلاص بقوله [ يريدون وجهه ]
[ وما من حسابك عليهم من شيء ] وهذا التأكيد لمطابقة الكلام ، والمعنى : لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك فلم تطردهم ؟ وقيل إن المراد بالحساب الرزق ، والمعنى : ليس رزقهم عليك ولا رزقك عليهم ، وإنما يرزقك ويرزقهم الله ربى العالمين
[ فتطردهم فتكون من الظالمين ] أى لا تطردهم فإنك إن طردتهم تكون من الظالمين ، وهذا لبيان الأحكام - وحاشاه من وقوع ذلك منه عليه السلام - قال القرطبي : وهذا كقوله تعالى [ لئن أشركت ليحبطن عملك ] وقد علم الله منه أن لا يشرك ولا يحبط عمله
[ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ] أى ابتلينا الغني بالفقير ، والشريف بالوضيع
[ ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ] أى ليقول الأشراف والأغنياء : أهؤلاء الضعفاء والفقراء ، من الله عليهم بالهداية ، والسبق إلى الإسلام من دوننا ! ! قالوا ذلك إنكارا واستهزاء كقولهم [ أهذا الذي بعث الله رسولا ] ؟ قال تعالى ردا عليهم
[ أليس الله بأعلم بالشاكرين ] ؟ أى الله أعلم بمن يشكر فيهديه ، ومن يكفر فيخزيه ، والإستفهام للتقرير
[ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ] قال القرطبي : نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم ، فكان (ص) إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال الحمد لله الذي جعل في أمتي من آمرني أن أبدأهم بالسلام " قال ابن كثير : أى أكرمهم بر السلام عليهم ، وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم ، كما أمر (ص) بأن يبدأهم بالسلام ، إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم
[ كنب ربكم على نفسه الرحمة ] أى ألزم نفسه الرحمة ، تفضلا منه وإحسانا
[ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ] أى خطيئة من غير قصد ، قال مجاهد : أى لا يعلم حلالا من حرام ، ومن جهالته ركب الأمر
[ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ] أى ثم تاب من بعد ذلك الذنب ، وأصلح عمله ، فإن الله يغفر له ، وهو وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح
[ وكذلك نفصل الآيات ] أى كما فصلنا في هذه السورة الدلائل والحجج على ضلالات المشركين ، كذلك نبين ونوضح لكم أمور الدين
[ ولتستبين سبيل المجرمين ] أي ولتتوضح وتظهر طريق المجرمين ، فينكشف أمرهم وتستبين سبلهم
[ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ] أى قل يا أيها الرسول لهؤلاء المشركين : إني نهيت أن أعبد هذه الأصنام ، التي زعمتموها آلهة ، وعبدتموها من دون الله
[ قل لا اتبع أهواءكم ] أى في عبادة غير الله ، وفيه تنبيه على أن اتباع الهوى سبب ضلالهم
[ قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ] أى قد ضللت إن اتبعت أهواءكم ، ولا أكون في زمرة المهتدين
[ قل إني على بينة من ربي ] أى على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الي
[ وكذبتم به ] أى وكذبتم بالحق الذي جاءني من عند الله
[ ما عندي ما تستعجلون به ] أى ليس عندي ما أبادركم به من العذاب ، قال الزمخشري : يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم [ فأمطر علينا حجارة من السماء ]
[ إن الحكم إلا لله ] أى ما الحكم في أمر العذاب وغيره ، إلا لله وحده
[ يقص الحق وهو خير الفاصلين ] أى يخبر الخير الحق ، ويبينه البيان الشافي ، وهو خير الحاكمين بين عباده
[ قل لو أن عندي ما تستعجلون به ] أى لو أن بيدي أمر العذاب الذي تستعجلونه
[ لقضى الأمر بينى وبينكم ] أي لعجلته لكم لأستريح منكم ، ولكنه بيد الله ، قال ابن عباس : أى لم أهملكم ساعة ولأهلكتكم
[ والله أعلم بالظالمين ] أى هو تعالى أعلم بهم ، إن شاء عاجلهم بالعذاب وان شاء أخر عقوبتهم ، وفيه وعيد وتهديد .
البلاغة :
1 - [ والموتى يبعثهم الله ] فيه استعارة لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم ، فاستعار لفظة " الموتى " للكفرة المجرمين ، وهي ا ستعارة بديعة .
2 - [ يطير بجناحيه ] تأكيد لدفع توهم المجاز ، لأن الطائر قد يستعمل مجازا للعمل كقوله [ ألزمناه طائره في عنقه ] أى عمله .
3 - [ صم وبكم ] فيه (تشبيه بليغ ) ، أى هم كالصم والبكم ، في عدم السماع وعدم الكلام ، فحذفت منه الأداة ووجه الشبه ، فأصبح بليغا .
4 - [ إياه تدعون ] فيه قصر أى لا تدعون غيره لكشف الضر ، فهو قصر صفة على موصوف .
5 - [ فقطع دابر ] كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال ، حيث هلكوا عن آخرهم .
6 - [ الاعمى والبصير ] استعارة عن الكافر والمؤمن ، وهي من بديع الاستعارات . 7- [ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ] في هاتبن الجملتين من أنواع البديع ما يسمى " رد الصدر على العجز " .
فائدة :
قال الزمخشري في قوله تعالى [ ففطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمبن ] هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة ، وأنه من أجل النعم وأجزل القسم .
فائدة :
قال بعض المفسرين : إن الواجب في الدعاء الإخلاص به ، لأنه تعالى قال [ يريدون وجهه ] وهكذا جميع الطاعات لا ينبغي أن تكون لشيء من أغراض الدنيا ، إنما يقصد بها رضوان الله تعالى .
قال الله تعالى : [ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو . . إلى . . عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ] من آية (59) إلى نهاية آية (73) .
المناسبة :
لما أقام تعالى الأدلة والبراهين على وجوده ووحدانيته ، أعقبه بذكر الأدلة على صفاته القدسية : علمه ، وقدرته ، وعظمته ، وجلاله ، وسائر صفات الجلال والجمال ، ثم ذكر نعمته الجليلة على العباد ، بإنجائهم من الشداند ، وقدرته على الانتقام ممن خالف أمره وعصى رسله .
اللغة :
[ كرب ] الكرب : الغم الذي يأخذ بالنفس
[ شيعا ] الشيعة : الفرقة تتبع الأخرى ويجمع على شيع وأشياع
[ أبسلوا ] الإبسال : تسليم الإنسان نفسه للهلاك
[ عدل ] فدية
[ حميم ] الحميم : الماء الحار
[ حيران ] الحيرة : التردد في الأمر لا يهتدي إلى مخرج منه
[ الغيب ] ما غاب عن الحواس
[ الشهادة ] ما كان مشاهدا ظاهرا للعيان
[ تحشرون ] تجمعون .
التفسير :
[ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ] أى عند الله خزائن علم الغيب ، وهي الأمور المغيبة الخفية ، لا يعلمها ولا يحيط بها إلا هو جل وعلا
[ ويعلم ما في البر والبحر ] أى ويعلم ما في البر والبحر من الحيوانات ، جملة وتفصيلا ، وفي كل عوالم وعجائب وسعها علمه وقدرته
[ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ] مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات أى لا تسقط ورقة من الشجر ، إلا يعلم وقت سقوطها ، والأرض التى تسقط عليها
[ ولا حبة في ظلمات الأرض ] أى ولا حبة صغيرة في باطن الأرض ، إلا يعلم مكانها ، وهل تنبت أو لا ؟ وكم تنبت ومن يأكلها ؟
[ ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين ] أى ولا شئ فيه رطوبة أو جفاف ، إلا وهو معلوم عند الله ، ومسجل في اللوح المحفوظ قال ابو حيان : وأنظر إلى حسن ترتيب هذه المعلومات : بدأ أولا بأمر معقول ، لا ندركه نحن بالحس وهو [ مفاتح الغيب ] ((كتب شهيد الإسلام " سيد قطب " في تفسيره الظلال حول هذه الآية كلاما رائعا نجتزىء منه بعض فقرات ، قال طيب الله ثراه " وهذه الآية صورة لعلم الله الشامل المحيط الذي لا يند عنه شىء في الزمان ولا في المكان ، فى الارض ولا فى السماء ، فى البر ولا فى البحر إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط ، الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان ، في الأرض ولا في السماء ، في البر ولا في البحر ، في جوف الأرض ولا في طباق الجو ، من حي وميت ويابس ورطب . . . إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول ، وراء حدود هذا الكون المشهود . . وإن الوجدان ليرتعش وهو يرتاد أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل ، البعيدة الآماد والآفاق والأغوار . . مفاتحها كلها عند الله ، لا يعلمها إلا هو . . ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر , المكشوفة كلها لعلم الله . ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض , لا يحصيها عد , وعين الله على كل ورقة تسقط , هنا وهناك . ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله . ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض , لا يند منه شيء عن علم الله المحيط . إنها جولة تدير الرؤوس , وتذهل العقول . جولة في أغوار من المنظور والمحجوب , والمعلوم والمجهول . وهي ترسم هكذا بدقة كاملة شاملة في بضع كلمات . . ألا إنه الإعجاز !)) ثم ثانيا بأمر ندرك كثيرا منه بالحس وهو [ البر والبحر ] ثم ثالثا بجزأين لطيفين أحدهما علوي وهو سقوط الورقة من علو ، والثاني سفلي وهو اختفاء حبة في بطن الأرض ، فدل ذلك على أنه تعالى عالم بالكليات والجزئيات
[ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ] أي ينيمكم بالليل ، ويعلم ما كسبتم من العمل بالنهار ، قال القرطبي : وليس ذلك موتا حقيقة بل هو قبض الأرواح ، قال ابن عباس : يقبض أرواحكم في منامكم ، وفي هذا اعتبار واستدلال على البعث الأخروي
[ ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ] أى ثم يوقظكم في النهار لتبلغوا الأجل المسمى لإنقطاع حياتكم ، والضمير عائد على النهار ، لأن غالب اليقظة فيه ، وغالب النوم بالليل
[ ثم إليه مرجعكم ] أى ثم مرجعكم إلى الله وحده يوم القيامة
[ ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ] أى يخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها ، إن خيرا فخير ، وإن شر فشر. . ثم ذكر تعالى جلال عظمته وكبريائه فقال سبحانه
[ وهو القاهر فوق عباده ] أى هو الذي قهر كل شيء ، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء
[ ويرسل عليكم حفظة ] أى ملائكة تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون ، قال ابو السعود : وفي ذلك حكمة جميلة ونعمة جليلة ، لأن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه ، وتعرض على رءوس الأشهاد ، كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح
[ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ] أى حتى إذا انتهى أجل الإنسان ، توفته الملائكة الموكلون بقبض الأرواح ، والمعنى : أن حفظ الملائكة للأشخاص ، ينتهي عند نهاية الأجل ، فهم مأمورون بحفظ ابن آدم ما دام حيا ، فإذا انتهى أجله فقد انتهى حفظهم له
[ وهم لا يفرطون ] أى لا يقصرون في شئ مما أمروا به ، من الحفظ والتوفي
[ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ] أي ثم يرد العباد بعد البعث ، الى الله خالقهم ومالكهم ، الذي له وحده الحكم والتصرف ، والذي لا يقضي إلا بالعدل
[ ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ] أى له جل وعلا الحكم وحده يوم القيامة ، وله الفصل والقضاء ، لا يشغله حساب عن حساب ، ولا شأن عن شأن ، يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، كما ورد به الحديث ، وروي أنه يحاسب الناس في مقدار حلب شاة ((سئل على رضي الله عنه : كيف يحاسب الله العباد في حالة واحدة ، وفي وقت واحد ؟ فقال : كما يرزقهم في الدنيا في حال واحدة ، كذلك يحاسبهم في وقت واحد ))
[ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ] أى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة من ينقذكم ويخلصكم في أسفاركم من شدائد وأهوال البر والبحر ؟
[ تدعونه تضرعا وخفية ] أى تدعون ربكم عند معاينة هذه الأهوال مخلصين له الدعاء مظهرين الضراعة ، تضرعا بألسنتكم وخفية في أنفسكم ، قال ابن عباس المعنى : تدعون ربكم علانية وسرا قائلين
[ لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ] أى لئن خلصتنا من هذه الظلمات والشدائد ، لنكونن من المؤمنين الشاكرين ! ! والغرض : إذا خفتم الهلاك دعوتموه فإذا نجاكم كفرتموه ، قال القرطبي : وبخهم الله في دعائهم إياه عند الشدائد ، وهم يدعون معه في حالة الرخاء غيره
[ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ] أى الله وحده ينجيكم من هذه الشدائد ، ومن كل كرب وغم
[ ثم أنتم تشركون ] تقريع وتوببخ ، أى ثم أنتم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققه ، تشركون به ولا تؤمنون
[ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ] أى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة : أنه تعالى قادر على إهلاككم ، بإرسال الصواعق من السماء ، وما تلقيه البراكين من الأحجار والحمم ، وكالرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح كما فعل بمن قبلكم
[ أو من تحت أرجلكم ] بالخسف والزلازل والرجفة كما فعل بقارون وأصحاب مدين
[ أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ] أى يجعلكم فرقا متحزبين يقاتل بعضكم بعضا ، قال البيضاوي : أى يخلطكم فرقا متحزبين على أهواء شتى ، فينشب القتال بينكم وقال ابن عباس : أى يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقا ، والكل متقارب والغرض منه الوعيد
[ أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ] أى أنظر كيف نبين ونوضح لهم الآيات ، بوجوه العبر والعظات ، ليفهموا ويتدبروا عن الله آياته وبراهينه وحججه ، عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية [ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ] قال رسول الله (ص) : أعوذ بوجهك [ أو من تحت أرجلكم ] قال : أعوذ بوجهك [ أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ] قال رسول الله (ص) : هذه أهون أو أيسر
[ وكذب به قومك وهو الحق ] أى وكذب بهذا القرآن قومك يا محمد - وهم قريش - وهو الكتاب المنزل بالحق
[ قل لست عليكم بوكيل ] أى لست عليكم بحفيظ ومتسلط إنما أنا منذر
[ لكل نبأ مستقر ] أى لكل خبر من أخبار الله عز وجل ، وقت يقع فيه من غير خلف ولا تأخير
[ وسوف تعلمون ] مبالغة في الوعيد والتهديد ، أى سوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب
[ وإذا رايت الذين يخوضون في آياتنا ] أى إذا رأيت هؤلاء الكفار يخوضون في القرآن ، بالطعن والتكذيب والإستهزاء
[ فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ] أى لا تجالسهم وقم عنهم حتى يأخذوا في كلام آخر ، ويدعوا الخوض والاستهزاء بالقرآن ، قال السدي : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين ، وقعوا في النبي (ص) والقرآن ، فسبوه واستهزءوا به ، فأمرهم الله ألا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره (
[ وإما ينسينك الشيطان ] أى إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم فجالستهم ثم تذكرت
[ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ] أى لا تجلس بعد تذكر النهي مع الكفرة والفساق ، الذين يهزءون بالقرآن والدين ، قال ابن عباس : أى قم إذا ذكرت النهي ، فلا تقعد مع المشركين
[ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ] أى ليس على المؤمنبن شىء من حساب الكفار ، على استهزانهم وإضلالهم ، إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم
[ ولكن ذكرى لعلهم يتقون ] أى ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عن ما هم عليه من القبائح ، بما أمكن من العظة والتذكير) ، ويظهروا لهم الكراهة لعلهم يجتنبون الخوض في القرآن ، حياء من المؤمنين إذا رأوهم قد تركوا مجالستهم ، قال ابن عطية : ينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه
[ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ] أى أترك هؤلاء الفجرة الذين اتخذوا الدين الذي كان ينبغي احترامه وتعظيمه ، لعبا ولهوا ، بإستهزائهم به
[ وغرتهم الحياة الدنيا ] أى خدعتهم هذه الحياة الفانية ، حتى زعموا أن لا حياة بعدها أبدا
[ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ] أى وذكر بالقرآن الناس ، مخافة أن تسلم نفس للهلاك ، وترهن بسوء عملها
[ ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع ] أى ليس لها ناصر ينجيها من العذاب ، ولا شفيع يشفع لها عند الله
[ وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ] أى وإن تعط تلك النفس كل فدية لا يقبل منها ، قال قتادة : لو جاءت بملء الأرض ذهبا لم يقبل منها )
[ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ] أى أسلموا لعذاب الله ، بسبب أعمالهم القبيحة ، وعقائدهم الشنيعة
[ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ] أى لهؤلاء الضالين ، شراب من ماء مغلي ، يتجرجر في بطونهم ، وتتقطع به أمعاؤهم ، ونار تشتعل بأبدانهم ، بسبب كفرهم المستمر ، فلهم مع الشراب الحميم ، العذاب الأليم ، والهوان المقيم
[ قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ] الاستفهام للإنكار والتوبيخ أى قل لهم يا أيها الرسول : أنعبد ما لا ينفعنا إن دعوناه ، ولا يضرنا إن تركناه ؟ والمراد به الأصنام
[ ونرد على أعقابنا ] أى نرجع إلى الضلالة بعد الهدى
[ بعد إذ هدانا الله ] أى بعد أن هدانا الله للإسلام
[ كالذي استهوته الشياطين في الأرض ] أى فيكون مثلنا كمثل الذي اختطفته الشياطين ، وأضلته وسارت به في المفاوز والمهالك ، فألقته في هوة سحيقة
[ حيران ] أي متحيرا ، لا يدري أين يذهب
[ له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ] أى يدعونه إلى الطريق الواضح ، يقولون : ائتنا فلا يقبل منهم ، ولا يستجيب لهم
[ قل إن هدى الله هو الهدى ] أى قل لهؤلاء الكفار : إن ما نحن عليه من الإسلام هو الهدى وحده وما عداه ضلال
[ وأمرنا لنسلم لرب العالمين ] أى أمرنا بان نستسلم لله عز وجل ، ونخلص له العبادة ، في جميع أمورنا وأحوالنا ، وهذا تمثيل لمن ضل عن الهدى ، وهو يدعى إلى الإسلام فلا يجيب ، قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها ، وللدعاة الذين يدعون إلى الله ، كمثل رجل ضل عن الطريق تائها ضالا ، إذ ناداه منابر يا فلان بن فلان هلم إلى الطريق ، وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق ، فإن اتبع الداعي الأول ، انطلق به حتى يلقيه في الهلكة ، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق ، يقول : مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله ، فإنه يرى إنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الهلكة والندامة
[ وأن أقيموا الصلاة واتقوه ] أي وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقوى الله في جميع الأحوال
[ وهو الذي إليه تحشرون ] أى تجمعون إليه يوم القيامة ، فيجازي كل عامل بعمله
[ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ] أى هو سبحانه الخالق المالك ، المدبر للسموات والأرض ومن فيهما ، خلقهما بالحق ، ولم يخلقهما باطلا ولا عبثا
[ ويوم يقول كن فيكون ] أى واتقوه ، واتقوا عقابه ، واحذروا المكاره والشدائد ، يوم يقول كن فيكون ، قال ابو حيان : وهذا تمثيل لإخراج الشيء من العدم إلى الوجود وسرعته ، لا إن ثم شيئا يؤمر
[ قوله الحق وله الملك ] أى قوله الصدق الواقع لا محالة ، وله الملك يوم القيامة
[ يوم ينفخ في الصور ] أى يوم ينفخ اسرافيل في الصور (النفخة الثانية) ، وهي نفخة الإحياء
[ عالم الغيب والشهادة ] أى يعلم ما خفي وما ظهر ، وما يغيب عن الحواس والأبصار ، وما تشاهدونه بالليل والنهار
[ وهو الحكيم الخبير ] أي (الحكيم ) في أفعاله ، (الخبير) بشؤون عباده .
البلاغة :
1 - [ وعنده مفاتح الغيب ] استعار المفاتح للأمور الغيبية ، كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات ، قال الزمخشري : جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة ، لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المغلقة بالأقفال ، فهو سبحانه العالم بالمغيبات وحده .
2 - [ وهو الذي يتوفاكم بالليل ] فيها استعارة لطيفة ، استعير التوفي للنوم ، لما بينهما من المشاركة في زوال الاحساس والتمييز .
3 - [ قلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ] وضع الظاهر موضع الضمير (معهم للتسجيل عليهم بشناعة ما ارتكبوا ، حيث وضعوا التكذيب والاستهزاء ، مكان التصديق والتعظيم .
4 - [ ونرد على أعقابنا ] كنى عن الشرك بالرد على الأعفاب ، لزيادة تقبيح الأمر وتشنيعه .
5 - [ تعدل كل عدل ] بينهما جناس الاشتقاق .
6 - من المحسنات البديعية الطباق في كل من [ رطب ويابس ] و[ الليل والنهار ] و[ فوق وتحت ] و[ ينفعنا ويضرنا ] و[ الغيب والشهادة ] والسجع في [ شراب من حميم وعذاب أليم ] .
تنبيه :
قال الحاكم : دل قوله تعالى [ وعنده مفاتح الغيب ] على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئا من الغيب ، وهذا كذب وبهتان لأن الغيب لا يعلمه إلا الله .
قال الله تعالى : [ إذ قال إبراهيم لأبيه آزر . . إلى . . وضل عنكم ما كنتم تزعمون ] من آية (74) الى نهاية آية (94) .
المناسبة :
لما ذكر تعالى الحجج الدامغة ، الدالة على التوحيد وبطلان عبادة الأوثان ، ذكر هنا قصة أب الأنبياء (إبراهيم " لإقامة الحجة على مشركي العرب ، في تقديسهم الأصنام ، فإنه جاء بالتوحيد الخالص ، الذي يتنافى مع الإشراك بالله ، وجميع الطوائف والملل معترفة بفضل إبراهيم وجلالة قدره ، ثم ذكر شرف الرسل من أبناء إبراهيم ، وأمر رسوله بالاقتداء بهديهم الكريم .
اللغة :
[ ملكوت ] ملك ، والواو والتاء للمبالغة قي الوصف ، كالرغبوت والرهبوت من الرغبة والرهبة
[ جن ] ستر بظلمته ، قال الواحدي : جن عليه الليل وأجنه الليل ، ويقال لكل ما سترته : جن وأجن ومنه الجنة ، والجن والجنون ، والجنين ، وكل هذا يعود أصله إلى الستر وا لإستتار
[ بازغا ] طالعا يقال : بزغ القمر إذا ابتدا في الطلوع ، قال الازهري : كإنه مأخوذ من البزغ وهو الشق ، لأنه بنوره يشق الظلمة شقا
[ أفل ] غاب يقال : أفل افولا إذا غاب
[ سلطانا ] حجة
[ يلبسوا ] يخلطوا ، يقال : لبس الأمر خلطه ، ولبس الثوب اكتسى به
[ اجتبيناهم ] اصطغيناهم
[ قراطيس ] جمع قرطاس وهو الورق ، قال الشاعر : استودع العلم قرطاسا فضيعه فبئس مستودع العلم القراطيس
[ غمرات ] الغمرة : الشدة المذهلة ، وأصله من غمرة الماء وهي ما يغطى الشيء
[ خولناكم ] أعطيناكم وملكناكم ، والتخويل : المنح والإعطاء
[ ضل عنكم ] ضاع وبطل .
سبب النزول :
عن سعيد بن جبير أن " مالك بن الصيف " من إليه ود جاء يخاصم النبى ص) ، فقال له النبي (ص) : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراه أن الله يبغض الحبر السمين ؟ - وكان حبرا سمينا - فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ولا على موسى ؟ فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شىء ، فأنزل الله [ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء . . ] الآية.
التفسير :
[ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ] أى وأذكر يا أيها الرسول لقومك عبدة الأوثان ، وقت قول إبراهيم - الذي يدعون أنهم على ملته - لأبيه آزر منكرا عليه : اتتخذ أصناما آلهة تعبدها ؟ وتجعلها ربا دون الله الذي خلقك فسواك ورزقك ؟
[ إني أراك وقومك في ضلال مبين ] أي فانت وقومك في ضلال عن الحق ، مبين واضح لا شك فيه
[ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ] أى نري إبراهيم الملك العظيم ، والسلطان الباهر
[ وليكون من الموقنين ] أى وليكون من الراسخين في اليقين ، أريناه تلك الآيات الباهرة ، قال مجاهد : فرجت له السموات والأرض ، فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل
[ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ] أى فلما ستر الليل بظلمته كل ضياء ، رأى كوكبا مضيئا في السماء ، هو (الزهرة) أو (المشتري )
[ قال هذا ربي ] أى على زعمكم ، قاله على سبيل الرد عليهم ، والتوبيخ لهم ، وإستدراجا لهم لأجل أن يعرفهم جهلهم وخطأهم في عبادة غير الله . قال الزمخشري : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب ، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق ، من طريق النظر والإستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح ، مؤد إلى ألا يكون شىء منها آلها ، وأن وراءها محدثا أحدثها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها ، وقوله [ هذا ربي ] قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى الى الحق ، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة النيرة
[ فلما أفل قال لا أحب الآفلين ] أى فلما غاب الكوكب ، قال : لا أحب عبادة من كان كذلك ، لأن الرب لا يجوز عليه التغير والإنتقال ، لأن ذلك من صفات الأجرام
[ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ] أى فلما رأى القمر طالعا منتشر الضوء ، قال : هذا ربي على الإسلوب المتقدم ، لفتا لأنظار قومه إلى فساد ما يعبدونه ، وتسفيها لأحلامهم
[ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ] أى فلما غاب القمر ، قال إبراهيم : لئن لم يثبتني ربي على الهدى ، لأكونن من القوم الضالين ، وفيه تعريض لقومه بأنهم على ضلال
[ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ] أى هذا أكبر من الكوكب والقمر
[ فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ] أي فلما غابت الشمس ، قال لقومه : أنا بريء من إشراككم وأصنامكم ، قال أبو حيان : لما أوضح لهم أن هذا الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا ، ارتقب ما هو أنور منه وأضوا ، فرآى القمر أول طلوعه ، ثم لما غاب ارتقب الشمس ، إذ كانت أنور من القمر وأضوا ، وأكبر جرما وأعم نفعا ، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم ، وبين أنها مساوية للنجم في صفة الحدوث وقال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام " مناظرا ، لقومه ، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام ، والكواكب السيارة ، وأشدهن اضاءة (الشمس ، ثم القمر ، ثم الزهرة) فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة ، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع [ قال يا قوم إني بريء مما تشركون ]
[ اني وجهت وجهى ] أى قصدت بعبادتي وتوحيدي
[ للذي فطر السموات والأرض ] أى لله الذي ابتدع العالم ، وخلق السموات والأرض
[ حنيفا ] أى مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق
[ وما أنا من المشركين ] أى لست ممن يعبد مع الله غيره
[ وحاجه قومه ] ((ذهب بعض المفسرين إلى أن قول إبراهيم عن الكوكب {هذا ربي } إنما كان في حال الطفولة قبل استحكام النظر في معرفة الله جل وعلا ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، من أن هذا القول كان في مقام " المناظرة " لقومه ، لإقامة الحجة عليهم في بطلان عبادة الكواكب والشمس والقمر ، وأن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم ، من أبلغ الحجج وأوضح البراهين ، ومما يدل عليه قوله تعالى {وحاجه قومه } وقوله {وتلك حجتنا اتيناها إبراهبم على قومه } فالمقام مقام مناظرة - كما قال الحافط ابن كثير - لا مقام نظر ، وحاشا الخليل ، أن يشك في الرب الجليل ، وهو أب الأنبياء وإمام الحنفاء ، وقد ساق " الفخر الرازي " اثنتي عشرة حجة في تأييد مذهب الجمهور في تفسيره الكبير وهذا اختيار أساطين المفسرين كالقرطبى والزمخشري وأبي السعود وابن كثبر وصاحب البحر المحيط والله أعلم )) أى جادلوه وناظروه في شأن التوحيد ، قال ابن عباس : جادلوه في آلهتهم وخوفوه بها ، فأجابهم منكرا عليهم
[ قال أتحاجونى في الله ] أي أتجادلونني في وجود الله ووحدانيته ؟
[ وقد هدان ] أى وقد بصرني وهداني إلى الحق ؟
[ ولا أخاف ما تشركون به ] أى لا أخاف هذه الآلهة المزعومة التي تعبدونها من دون الله ، لأنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، وليست قادرة على شيء مما تزعمون
[ إلا إن يشاء ربي شيئا ] أى إلا إذا أراد ربي أن يصيبني شي من المكروه فيكون
[ وسع ربي كل شيء علما ] أى أحاط علمه بجميع الأشياء
[ أفلا تتذكرون ] استفهام للتوبيخ أى أفلا تعتبرون وتتعظون ؟ وفي هذا تنبيه لهم على غفلتهم التامة ، حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع ، وأشركوا بالله مع ظهور الدلائل الساطعة على وحدانيته سبحانه
[ وكيف أخاف ما أشركتم ] أى كيف أخاف آلهتكم التي أشركتموها مع الله في العبادة !
[ ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ] أى وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء ، الذي أشركتم به ، بدون حجة ولا برهان
[ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ] أى أينا أحق بالأمن ؟ أنحن وقد عرفنا الله بأدلة قاطعة ؟ وخصصناه بالعبادة ، أم أنتم وقد أشركتم معه الأصنام ، وكفرتم بالواحد الديان ؟
[ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ] أى لم يخلطوا إيمانهم بشرك
[ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ] أى لهم الأمن من العذاب وهم على هداية ورشاد ، روي أن هذه الآية لما نزلت ، أشفق منها أصحاب النبي (ص) في فقالوا : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال (ص) : ليس كما تظنون وإنما هو كما قال لقمان لأبنه [ يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ]
[ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ] الإشارة إلى ما تقدم من الحجج الباهرة ، التي أيد الله بها خليله عليه السلام ، أى هذا الذي احتج به إبراهيم على وحدانية الله ، من غياب الكواكب والشمس والقمر ، من أدلتنا التي أرشدناه لها ، لتكون له الحجة الدامغة على قومه
[ نرفع درجات من نشاء ] أى بالعلم والفهم والنبؤة
[ إن ربك حكيم عليم ] أى حكيم يضع الشيء في محله ، عليم لا يخفى عليه شيء
[ ووهبنا له اسحق ويعقوب ] أى وهبنا لإبراهيم ولدا وولد ولد ، لتقر عينه ببقاء العقب
[ كلا هدينا ] أى كلا منهما أرشدناه إلى سبيل السعادة وآتيناه النبوة والحكمة ، قال ابن كثير : يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحق ، بعد أن طعن في السن وأيس من الولد ، وبشر بنبوته وبأن له نسلا وعقبا ، وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة ، وكان هذا مجازاة لإبراهيم حين اعتزل قومه ، وهاجر من بلادهم لعبادة الله ، فعوضه الله عن قومه وعشيرته ، بأولاد صالحين من صلبه لتقر بهم عينه
[ ونوحا هدينا من قبل ] أى من قبل إبراهيم ، وذكر تعالى نوحا لأنه أب البشر الثاني ، فذكر شرف أبناء إبراهيم ، ثم ذكر شرف أبائه
[ ومن ذريته داود وسليمان ] أي ومن ذرية إبراهيم ((الضمير في {ذريته } فيه قولان : قيل إنه يرجع إلى نوح ، واختاره الفراء وابن جرير وقيل : إنه يرجع إلى إبراهيم وهو قول عطاء واختاره أبو السعود لأن مساق الآية ، لبيان شؤون إبراهيم العظيمة ، لا لبيان أولاد وذرية نوح عليه الصلاة والسلام )) هؤلاء الأنبياء الكرام ، وبدأ تعالى بذكر (داود وسليمان ) لأنهما جمعا الملك مع النبوة ، وسليمان بن داود فذكر الأب والإبن
[ وأيوب ويوسف ] قرنهما لإشتراكهما في الامتحان والبلاء
[ وموسى وهارون ] قرنهما لإشتراكهما في الإخوة ، وقدم موسى لأنه كليم لله
[ وكذلك نجزي المحسنين ] أى مثل ذلك الجزاء الكريم لإبراهيم ، نجزي من كان محسنا في عمله ، صادقا في إيمانه
[ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ] قرن بينهم لإشتراكهم في الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا
[ كل من الصالحين ] أى الكاملين في الصلاح
[ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا ] إسماعيل هو ابن إبراهيم ، ويونس بن متى ، ولوط بن هاران ، وهو ابن اخ إبراهيم
[ وكلا فضلنا على العالمبن ] أى كلا من هؤلاء المذكورين في هذه الآية ، فضلناه بالنبوة على عالمي عصرهم
[ ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ] أي وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات كثيرة
[ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ] أي اصطفيناهم وهديناهم إلى الطريق الحق ، المستقيم الذي لا عوج فيه ، قال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم ، وإن كان فيهم من لا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب
[ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ] أى ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم ، هو هدى الله يهدي به من أراد من خلقه
[ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ] أى لو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو قدرهم ، لبطل عملهم فكيف بغيرهم ؟
[ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ] أى أنعمنا عليهم بإنزال الكتب السماوية والحكمة الربانية ، والنبوة والرسالة
[ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ] أى فإن يكفر بآياتنا كفار عصرك يا محمد ، فقد استحفظناها واسترعيناها رسلنا وأنبياءنا الكرام ((قيل إن المراد بهم أهل المدينة من الأنصار وهو قول ابن عباس وقيل هم النبيون الثمانية عشر المذكورون فى هذه الآية ، وهو قول قتادة واختيار الزجاج وابن جرير ))
[ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ] أى هؤلاء الرسل المتقدم ذكرهم هم الهداة المهتدون ، فتأس واقتد بسيرتهم العطرة
[ قل لا أسألكم عليه أجرا ] أى قل يا محمد لقومك : لا أسألكم على تبليغ القرآن ، شيئا من الأجر والمال
[ إن هو إلا ذكرى للعالمين ] أى ما هذا القرآن إلا عظة وتذكير لجميع الخلق
[ وما قدروا الله حق قدره ] أى ما عرفوا الله حق معرفته ، ولا عظموه حق تعظيمه
[ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ] أى حين أنكروا الوحي وبعثه الرسل ، والقائلون هم إليه ود اللعناء تفوهوا بهذه العظيمة الشنعاء ، مبالغة في إنكار نزول القرآن على محمد عليه السلام
[ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ] أى قل يا محمد لهؤلاء المعاندين : من أنزل التوراة على موسى ، نورا يستضاء به وهداية لبنى إسرائيل ؟
[ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ] أى تكتبونه في قراطيس مقطعة وورقات مفرقة ، تبدون منها ما تشاءون وتخفون ما تشاءون ، قال الطبري : ومما كانوا يكتمونه إياهم ما فيها من أمر محمد (ص) ونبوته
[ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا أباؤكم ] أى علمتم يا معشر إليه ود من دين الله. وهدايته في هذا القرآن ، ما لم تعلموا به من قبل انتم وأباؤكم
[ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ] أى قل لهم في الجواب : الله أنزل هذا القرآن ، ثم إتركهم في باطلهم الذي يخوضون فيه ، يهزءون ويلعبون ، وهذا وعيد لهم وتهديد ، على إجرامهم وتكذيبهم رسل الله
[ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ] أى وهذا القرآن الذي أنزل على محمد (ص) كتاب مبارك كثير النفع والفائدة
[ مصدق الذي بين يديه ] أى يصدق كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل
[ ولتنذر أم القرى ومن حولها ] أى لتنذر به يا محمد أهل مكة ، ومن حولها وهم سائر أهل الأرض
[ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ] أى والذين يصدقون بالحشر والنشر ، يؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد ، والتبشير والتهديد
[ وهم على صلاتهم يحافظون ] أى يؤدون الصلاة على الوجه الاكمل في أوقاتها ، قال الصاوي : خص الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات
[ ومن أظلم من افترى على الله كذبا ] استفهام معناه النفي أى لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فجعل له شركاء وأندادا
[ أو قال أوحي إلى ولم يوح إليه شيء ] أى زعم أن الله بعثه نبيا ، كمسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، مع أن الله لم يرسله
[ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ] أى ومن أدعى أنه سينظم كلاما ، يماثل ما أنزله الله كقول الفجار [ لو نشاء لقلنا مثل هذا ] قال ابو حيان : نزلت في (النضر بن الحارث ) ومن معه من المستهزئين ، لأنه عارض القرآن بكلام سخيف ، لا يذكر لسخفه
[ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ] أى ولو ترى يا محمد هؤلاء الظلمة ، وهم في سكرات الموت وشدائده ، وجواب [ لو ] محذوف للتهويل ، أى لرآيت أمرا عظيما
[ والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ] أى وملائكة العذاب يضربون وجوههم وأدبارهم ، لتخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم : خلصوا أنفسكم من العذاب ، قال الزمخشري : المعنى يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها من أجسادكم ، وهذه عبارة عن العنف في السياق ، وا لإلحاح الشديد في الإزهاق ، من غير تنفيس وإمهال
[ اليوم تجزون عذاب الهون ] أى تجزون العذاب الذى يقع به الهوان الشديد ، مع الخزى الأكيد
[ بما كنتم تقولون على الله غير الحق ] أى بإفترائكم على الله ، ونسبتكم إليه الشريك والولد
[ وكنتم عن آياته تستكبرون ] أى تتكبرون عن الايمان بآيات الله ، فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون
[ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ] أى جئتمونا للحساب منفردين عن الأهل والمال والولد ، حفاة عراة غرلا ، كما ورد في الحديث (أيها الناس انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده )
[ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ] أى تركتم ما عطيناكم من الأموال في الدنيا ، فلم تنفعكم في هذا اليوم العصيب
[ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ] أى وما نرى معكم آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم ، والذين اعتقدتم أنهم شركاء لله ، في استحقاق العبادة
[ لقد تقطع بينكم ] أى تقطع وصلكم وتشتت جمعكم
[ وضل عنكم ما كنتم تزعمون ] أي ضاع وتلاشى ما زعمتوه من الشفعاء والشركاء ! !
البلاغه :
1 - [ وكذلك نري إبراهيم ] حكاية حال ماضية أى أريناه .
2 - [ لأكونن من القوم الضالين ] فيه تعريض بضلال قومه ، وبين لفظ
[ الهداية والضلالة ] طباق وهو من المحسنات البديعية .
3 - [ وجهت وجهي ] بينهما جناس الاشتقاق .
4 - [ هدى الله ] الإضافة للتشريف ، وبين [ هدى ] و[ يهدي ] جناس الاشتقاق أيضا .
5 - [ ما أنزل الله على بشر من شيء ] مبالغة في إنكار نزول شيء من الوحي على أحد من الرسل .
6 - [ من أنزل الكتاب ] استفهام للتبكيت والتوبيخ .
7 - [ تبدونها وتخفون ] بينهما طباق .
8 - [ أم القرى ] مكة المكرمة ، وفيها استعارة حيث شبهت بالأم ، لأنها أصل المدن والقرى .
9 - [ في غمرات الموت ] قال الشريف الرضي : هذه استعارة عجيبة حيث شبه سبحانه ما يعتورهم من كرب الموت وغصصه ، بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه ، وسميت (غمرة) لأنها تغمر قلب الإنسان .
تنبيه :
ذهب بعض المفسرين إلى أن [ آزر ] عم إبراهيم وليس أباه وقال آخرون : إنه اسم للصنم ، والصحيح كما قال المحققون من المفسرين أنه اسم لوالد إبراهيم ، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة ، والآية صريحة في أن (آزر) كان كافرا ، ولا يقدح ذلك في مقام إبراهيم عليه السلام ، وفي صحيح البخاري " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة . . الحديث ودعوى إيمانه مرفوضة بنص الكتاب والسنة والله أعلم .
قال الله تعالى : [ إن الله فالق الحب والنوى . . إلى . . ونذرهم في طغيانهم يعمهون ] من آية (95) الى نهاية آية ( 115 ) .
المناسبة :
لما ذكر تعالى أمر التوحيد وأردفه بتقرير أمر النبوة ، ذكر هنا الأدلة الدالة على وجود الخالق وكمال علمه وقدرته وحكمته ، تنبيها على أن المقصود الأصلي إنما هو (معرفة الله ) بذاته وصفاته وأفعاله .
اللغة :
[ فالق ] الفلق : الشق ، وانفلق الصبح انشق
[ سكنا ] السكن ما يسكن إليه الإنسان ويانس به ، والسكن : الرحمة حسبانا ] أى بحساب ، قال الزمخشري : الحسبان مصدر حسب كما أن الحسبان مصدر حسب ونظيره الكفران والشكران
[ متراكبا ] بعضه فوق بعض
[ قنوان ] جمع قنو وهو العذق أي عنقود النخلة
[ وينعه ] أى نضجه وإدراكه يقال : ينعت الشجرة وأينعت إذا نضجت
[ خرقوا ] اختلقوا كذبا وإفكا
[ بديع ] مبدع وهو الخالق على غير مثال سابق ، والإبداع الإتيان بشيء لم يسبق إليه ، ولهذا يقال لمن أتى في فن من الفنون لم يسبقه فيه غيره : إنه أبدع
[ نصرف ] التصريف : نقل الشيء من حال الى حال .
سبب النزول :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والنيل منها ، وإما ان نسب إلهه ونهجوه فنزلت [ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم . . ] الآية وفي رواية أخرى أن المشركين قالوا يا محمد : لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنزلت .
التفسير :
عاد الكلام إلى الإحتجاج على المشركين بعجائب الصنع ولطائف التدبير فقال سبحانه :
[ أن الله فالق الحب والنوى ] أى يفلق الحب تحت الأرض ، لخروج النبات منها ، ويفلق النوى لخروج الشجر منها ، قال القرطبي : أى يشق النواة الميتة ، فيخرج منها ورقا أخضر ، وكذلك الحبة
[ يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحي ] أى يخرج النبات الغض الطرفي من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي ، وقال ابن عباس : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، وعلى هذا فالحي والميت (استعارة) عن المؤمن والكافر
[ ذلكم الله فأنى تؤفكون ] أى ذلكم الله الخالق المدبر ، فكيف تصرفون عن الحق بعد هذا البيان ؟
[ فالق الإصباح ] أى شاق الضياء عن الظلام وكاشفه ، قال الطبري : شق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده
[ وجعل الليل سكنا ] أى يسكن الناس فيه عن الحركات ويستريحون
[ والشمس والقمر حسبانا ] أى بحساب دقيق يتعلق به مصالح العباد ، ويعرف بهما حساب الأزمان والليل والنهار
[ ذلك تقدير العزيز العليم ] أى ذلك التسيير بالحساب المعلوم ، تقدير الغالب القاهر الذي لا يستعصي عليه شيء ، العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم
[ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ] أى خلق لكم النجوم لتهتدوا بها في أسفاركم ، في ظلمات الليل في البر والبحر ، وإنما امتن عليهم بالنجوم لأن سالكى القفار ، وراكبي البحار ، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها
[ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ] أى بينا الدلائل على قدرتنا ، لقوم يتدبرون عظمة الخالق
[ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ] أى خلقكم وأبدعكم من نفس واحدة هي آدم عليه السلام
[ فمستقر ومستودع ] قال ابن عباس : المستقر في الارحام ، والمستودع في الأصلاب ، أى لكم استقرار في أرحام أمهاتكم وأصلاب أبائكم ، وقال ابن مسعود : مستقر في الرحم ، ومستودع في الأرض التي تموت فيها ((وفسر المستقر أيضا بالاستقرار فوق الأرض والمستودع تحت الأرض ، واختار الطبري العموم ))
[ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ] أى بينا الحجج لقوم يفقهون الأسرار والدقائق ، قال الصاوي : عبر هنا ب [ يفقهون ] إشارة إلى أن أطوار الإنسان وما احتوى عليه ، أمر خفى ، تتحير فيه الألباب ، بخلاف النجوم فأمرها ظاهر مشاهد ، ولذا عبر فيها ب [ يعلمون ]
[ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ ] أى أنزل من السحاب المطر ، فاخرج به كل ما ينبت من الحبوب والفواكه ، والثمار والبقول ، والحشائش والشجر ، قال الطبري : أى أخرجنا به ما ينبت به كل شيء ، وينمو عليه ويصلح
[ فأخرجنا منه خضرا ] أى أخرجنا من النبات شيئا غضعا أخضر
[ نخرج به حبا متراكبا ] أى نخرج من الخضر حبا متراكبا بعضه فوق بعض ، كسنابل الحنطة والشعير ، قال ابن عباس : يريد القمح والشعير والذرة والأرز
[ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ] أى وأخرجئا من طلع النخل - والطلع أول ما يخرج من التمر في أكمامه - عناقيد قريبة سهلة التناول ، قال ابن عباس : يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية ممن يجتنبها
[ وجنات من أعناب ] أى وأخرجنا بالماء بساتين وحدائق من أعناب
[ والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ] أى وأخرجنا به أيضا شجر الزيتون وشجر الرمان ، مشتبها في المنظر ، وغير متشابه في الطعم ، قال قنادة : مشتبها ورقه مختلفا ثمره ، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار العليم المدبر
[ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ] أى انظروا أيها الناس نظر اعتبار واستبصار ، إلى خروج هذه الثمار ، من ابتداء خروجها ، إلى انتهاء ظهورها ونضجها ، كيف تنتقل من حال إلى حال ، في اللون والرائحة والصغر والكبر ، وتأملوا ابتداء الثمر حيث يكون بعضه مرا ، وبعضه مالحا لا ينتفع بشيء منه ، ثم إذا انتهى ونضج ، فإنه يعود حلوا طيبا نافعا مستساغ المذاق ! فسبحان القدير الخلاق ! !
[ إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ] أى إن في خلق هذه الثمار والزروع ، مع اختلاف الأجناس والأشكال والألوان ، لدلائل باهرة على قدرة الله ووحدانيته ، لقوم يصدقون بوجود الله ، قال ابن عباس : يصدقون أن الذي اخرج هذا النبات قادر على ان يحي الموتى)
[ وجعلوا لله شركاء الجن ] أى وجعلوا الجن شركاء لله حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان
[ وخلقهم ] أى وقد علموا أنه تعالى هو الذي خلقهم وانفرد بإيجادهم ، فكيف يجعلونهم شركاء له ؟ وهذه غاية الجهالة
[ وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ] أى واختلقوا ونسبوا اليه تعالى البنين والبنات ، حيث قالوا : عزيز ابن الله ، والملائكة بنات الله ، سفها وجهالة
[ سبحانه وتعالى عنا يصفون ] أى تنزه الله وتقدس عن هذه الصفات التي نسبها إليه الظالمون ، وتعالى علوا كبيرا
[ بديع السموات والأرض ] أى مبدعهما من غير مثال سبق
[ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ] أى كيف يكون له ولد وليس له زوجة ؟ والولد لا يكون إلا من زوجة
[ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ] أى وما من شيء إلا هو خالقه ، والعالم به ، ومن كان كذلك كان غنيا عن كل شيء ! ! قال في التسهيل : والغرض الرد على من نسب لله الولد من وجهين : أحدهما : أن الولد لا يكون إلا من جنس والده ، والله تعالى متعالي عن الاجناس ، لأنه مبدعها فلا يصح أن يكون له ولد ، والثاني : أن الله خلق السموات والأرض ، ومن كان هكذا فهو غني عن الولد ، وعن كل شيء ، ثم أكد تعالى على وحدانيته وتفرده بالخلق والإيجاد فقال سبحانه
[ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو ] أى ذلكم الله خالقكم ومالككم ومدبر أموركم ، لا معبود بحق سواه
[ خالق كل شيء فاعبدوه ] أى هو الخالق لجميع الموجودات ، ومن كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده
[ وهو على كل شيء وكيل ] أى وهو الحافظ والمدبر لكل شيء ، ففوضوا أموركم إليه وتوسلوا إليه بعبادته
[ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ] أى لا تصل إليه الأبصار ولا يحيط به ، وهو يراها ويحيط بها ، لشمول علمه تعالى للخفيات
[ وهو اللطيف الخبير ] أى اللطيف بعباده ، الخبير بمصالحهم ، قال ابن كثير : ونفي الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة ، إذ يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء ، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس ، فلا تدركه الأبصار ، ولهذا كانت عائشة تثبت الرؤية في الآخرة وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية.
[ قد جاءكم بصائر من ربكم ] أى قد جاءكم البينات والحجج ، التي تبصرون بها الهدى من الضلال ، وتميزون بها بين الحق والباطل ، قال الزجاج : المعنى قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر)
[ فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ] أى من أبصر الحق وآمن ، فلنفسه أبصر وإياها نفع ، ومن عمي عنه ، فعلى نفسه عمي وإياها ضر بالعمى
[ وما أنا عليكم بحفيظ ] أى لست عليكم بحافظ ولا رقيب ، وإنما أنا منذر ، والله هو الحفيظ عليكم
[ وكذلك نصرف الآيات ] أى وكما بينا ما ذكر نبين الآيات ليعتبروا
[ وليقولوا درست ] أى وليقول المشركون : درست يا محمد في الكتب وقرأت فيها ، وجئت بهذا القرآن ، واللام لام العاقبة
[ ولنبينه لقوم يعلمون ] أى ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه
[ اتبع ما أوحي إليك من ربك ] أى اتبع يا محمد القرآن الذي أوحاه الله إليك ، قال القرطبى : أى لا تشغل قلبك وخاطرك بهم ، بل اشتغل بعبادة الله
[ لا إله إلا هو ] أى لا معبود بحق الا هو
[ وأعرض عن المشركين ] أى لا تحتفل بهم ، ولا تلتفت إلى آرائهم
[ ولو شاء الله ما أشركوا ] أي لو شاء الله هدياتهم لهداهم فلم يشركوا ، ولكنه سبحانه يفعل ما يشاء [ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ]
[ وما جعلناك عليهم حفيظا ] أى وما جعلناك رقيبا على أعمالهم تجازيهم عليها
[ وما أنت عليهم بوكيل ] أى ولست موكل على أرزاقهم وأمورهم ، قال الصاوي : وهذا تأكيد لما قبله ، أى لست حفيظا مراقبا لهم فتجبرهم على الإيمان ، وهذا كان قبل الأمر بالقتال
[ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ] أى لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم
[ فيسبوا الله عدوا بغير علم ] أى فيسبوا الله جهلا وإعتداء ، لعدم معرفتهم بعظمة الله ، قال ابن عباس : قال المشركون : لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك ! ! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم
[ كذلك زينا لكل أمة عملهم ] أى كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم ، قال ابن عباسى : زينا لأهل الطاعة الطاعة ولأهل الكفر الكفر
[ ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ] أى ثم معادهم ومصيرهم إلى الله ، فيجازيهم بأعمالهم ، وهو وعيد بالجزاء والعذاب
[ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ] أى حلف كفار مكة بأغلظ الأيمان وأشدها
[ لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ] أى لئن جاءتهم معجزة ، أو أمر خارق مما اقترحوه ليؤمنن بها
[ قل إنما الآيات عند الله ] أى قل لهم يا محمد : أمر هذه الآيات عند الله لا عندي ، هو القادر على الإتيان بها دوني
[ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ] أي وما يدريكم أيها المؤمنون ، لعلهم إذا جاءتهم لا يصدقون بها! !
[ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ] أى ونحول قلوبهم عن الإيمان ، كما لم يؤمنوا بما أنزل من القرآن أول مرة ، قال الصاوي : وهو استئناف مسوق لبيان أن خالق الهدى والضلال ، هو الله لا غيره فمن أراد له الهدى حول قلبه له ، ومن أراد الله شقاوته حول قلبه لها
[ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ] أى ونتركهم في ضلالهم ، يتخبطون ويترددون متحيرين
البلاغة :
1 - [ يخرج الحى من الميت ] بين لفظ الحى والميت طباق وهو من المحسنابت البديعية وفي الآية أيضا من المحسنات ما يسمى رد العجز على الصدر في قوله [ ومخرج الميت من الحي ] .
2 - [ فأنى تؤفكون ] استفهام انكاري بمعنى النفي ، أى لا وجه لصرفكم عن الإيمان بعد قيام البرهان .
3- [ فأخرجنا به ] فيه التفات عن الغيبة ، والأصل " فأخرج به " ، والنكتة هي الاعتناء بشأن المخرج ، والإشارة إلى أن نعمه عظيمة .
4 - [ والزيتون والرمان ] من عطف الخاص على العام ، لمزيد الشرف لأنهما من أعظم النعم .
5 - [ بصائر من ربكم ] مجاز مرسل من باب تسمية المسبب باسم السبب ، أى حجج وبراهين ، تبصرون بها الحقائق .
6 - بين لفظ [ أبصر وعمي ] طباق وبين لفظ [ بصائر وأبصر ] جناس الاشتقاق .
تنبيه :
قوله تعالى [ لا تدركه الأبصار ] الآية نفت الإحاطة ولم تنف الرؤية ، فلم يقل تعالى : لا تراه الأبصار ، فم ذهب إلى عدم رؤية الله في الآخرة كالمعتزلة ، فقد جانب الحق وضل السبيل ، بمخالفة ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ، المتواترة ، أما الكتاب فقوله تعالى [ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ] وأما السنة فما أخرجه البخاري " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته . . " الحديث ، وكفى بالكتاب والسنة دليلا وهاديا .
قال الله تعالى : [ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى . . إلى . . وهو وليهم بما كانوا يعملون ] من آية ( 1 1 1 ) إلى نهاية آية (27 1 ) .
المناسبة :
لما ذكر تعالى دلائل التوحيد والنبوة والبعث ، واقتراح المشركين بعض الآيات على رسول الله (ص) ذكر هنا أن رؤبة المعجزات لن تفيد من عميت بصيرته ، وأنه لو أتاهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة ، وإحياء الموتى حتى يكلموهم ، وحشر السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول ، ما آمنوا بمحمد والقرآن ، لتأصلهم في الضلال والطغيان .
اللغة :
[ قبلا ] مقابلة ومواجهة ومنه قولهم أتيتك قبلا لا دبرا أى من قبل وجهك
[ وحشرنا ] الحشر : الجمع مع سوق ، وكل جمع حشر ومنه
[ فحشر فنادى ] .
[ زخرف ] قال الزجاج : الزخرف : الزينة وقال ابو عبيدة : كل ما حسنته وزينته وهو باطل فهو زخرف
[ ولتصغي ] صغى إلى الشيء مال إليه ومثله أصغى ، وفي الحديث " فأصغى إليه الإناء " وأصله الميل
[ يقترفون ] اقترف : اكتسب وأكثر ما يكون في الشر ، يقال : قرف الذنب واقترفه أى اكتسبه
[ يخرصون ] يكذبون ، قال الازهري : أصله الظن فيما لا يستيقن)
[ صغار ] ذلة وهوان
[ يشرح ] الشرح : البسط والتوسعة
[ حرجا ] الحرج : شدة الضيق ، قال ابن قتيبة : الحرج الذي ضاق فلم يجد منفذا.
سبب النزول :
عن ابن عباس أن أبا جهل رمى رسول الله (ص) بفرث - وحمزة لم يؤمن بعد - فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ، وهو راجع من قنصه وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس ، فقال أبو جهل : أما ترى ما جاء به ؟ سفه عقولنا ، وسب آلهتنا ، وخالف أباءنا! ! قال حمزة : ومن أسفه منكم ؟ تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا آله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فأنزل الله [ أو من كان ميتا فأحييناه . . ] الآية .
التفسير :
[ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ] هذا بيان لكذب المشركين ، في أيمانهم الفاجرة حين أقسموا [ لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ] والمعنى : ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه من آية واحدة من الآيات ، بل نزلنا إليهم الملائكة ، وأحيينا لهم الموتى ، فكلموهم وأخبروهم بصدق محمد (ص) كما اقترحوا
[ وحشرنا عليهم كل شيئ قبلا ] أى وجمعنا لهم كل شيء من الخلائق عيانا ومشاهدة
[ ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ] أى لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها ، وكل آية لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله ! ! والغرض من الآية التيئيس من إيمانهم
[ ولكن أكثرهم يجهلون ] أى ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون ذلك ، قال الطبري : أى يجهلون أن الأمر بمشيئة الله ، يحسبون أن الإيمان إليهم ، والكفر بأيديهم ، متى شاءوا آمنوا ، ومتى شاءوا كفروا ، وليس الأمر كذلك ، ذلك بيدي لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته ، ولا يكفر إلا من خذلته اضللته
[ وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس والجن ] أى كما جعلنا هؤلاء المشركين أعداءك ، يعادونك ويخالفونك ، كذلك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء ، أعداء من شياطين الإنس والجن ، فاصبر على الأذى كما صبروا ، قال ابن الجوزي : أى كما أبتليناك بالأعداء ، ابتلينا من قبلك من الأنبياء ، ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى
[ يوحي بعضهم إلى بعض ] أى يوسوس بعضهم إلى بعض ، بالضلال والشر
[ زخرف القول غرورا ] أى يوسوسون لهم بالكلام المزين والأباطيل المنوهة ، ليغزوا الناس ويخدعوهم ، قال مقاتل : وكل إبليس بالإنس شياطين يضلونهم ، فإذا إلتقى شيطان الإنس بشيطان الجن ، قال أحدهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، فأضلك أنت صاحبك بكذا وكذا ، فذلك وحي بعضهم إلى بعض
[ ولو شاء ربك ما فعلوه ] أي لو شاء الله ما عادى هؤلاء أنبياءهم ، ولكن حكمة الله اقتضت هذا الابتلاء ، قال ابن كثير : وذلك كله بقدر الله وقضائه ، وإرادته ومشيئته ، أن يكون لكل نبى عدو من هؤلاء
[ فذرهم وما يفترون ] أي اتركهم وما يدبرونه من المكائد ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم
[ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ] أى ولتميل إلى هذا القول المزخرف ، قلوب الكفرة الذين لا يصدقون بالآخرة
[ وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ] أى وليرضوا بهذا الباطل ، وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الأثام
[ أفغير الله أيبتغي حكما ] أى قل لهم يا أيها الرسول : أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم ؟ قال أبو حيان : قال معشركو قريش لرسول الله (ص) : اجعل بيننا وبينك حكما ، إن شئت من أحبار (اليهود) أو (النصارى) ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت
[ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ] أى أنزل إليكم القرآن بأوضج بيان ، مفصلا فيه الحق والباطل ، موضحا فيه الهدى من الضلال
[ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ] أى وعلماء إليهود والنصارى ، يعلمون حق العلم ، أن القرآن حق ، لتصديقه ما عندهم
[ فلا تكونن من الممترين ] أى فلا تكونن من الشاكين ، وهذا من باب التهييج والإلهاب وقيل : الخطاب للرسول والمراد به الأمة
[ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ] أى تم كلام الله المنزل ، صدقا فيما أخبر ، وعدلا فيما قضى وقدر
[ لا مبدل لكلماته ] أى لا مغير لحكمه ولا راد لقضائه
[ وهو السميع العليم ] أى السميع لأقوال العباد ، العليم بأحوالهم
[ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ] أى إن تطع هؤلاء الكفار - وهم أكثر أهل الأرض - يضلوك عن سبيل الهدى ، قال الطبري : وإنما قال [ أكثر من في الأرض ] لأنهم كانوا حينئذ كفارا ضلالا والمعنى : لا تطعهم فيما دعوك إليه ، فإنك إن أطعتهم ضللت ضلالهم ، وكنت مثلهم ، لأنهم لا يدعونك إلى الهدى وقد اخطأوه
[ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ] أى ما يتبعون في أمر الدين إلا الظنون والأوهام ، يقلدون أباءهم ظنا منهم أنهم كانوا على الحق ، وما هم إلا قوم يكذبون
[ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ] أى أن ربك يا محمد أعلم بالفريقين : بمن ضل عن سبيل الرشاد ، وبمن اهتدى إلى طريق الهدى والسداد قال في البحر : وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعد والوعيد ، لأن كونه تعالى عالما بالضال والمهتدي ، هو التنبيه عن مجازاتهما)
[ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ] أى كلوا مما ذبحتم وذكرتم اسم الله عليه ، إن كنتم حقا مؤمنين . قال ابن عباس : قال المشركون للمؤمنين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله ، فما قتله الله - يريدون الميتة - أحق أن يأكلوه مما قتلتم أنتم ! ! فنزلت الآية
[ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ] أى وما المانع لكم من أكل ما ذبحتموه بأيديكم ، بعد أن ذكرتم اسم ربكم عليه عند ذبحه ؟
[ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ] أى وقد بين لكم ربكم الحلال والحرام ، ووضح لكم ما يحرم عليكم من الميتة والدم إلخ في آية المحرمات إلا في حالة الاضطرار ، فقد أحل لكم ما حرم أيضا ، فما لكم تستمعون إلى الشبهات التي يثيرها أعدأوكم الكفار ؟
[ وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ] أى وإن كثيرا من الكفار المجادلين ، ليضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام ، بغير شرع من الله ، بل بمجرد الأهواء والشهوات
[ إن ربك هو أعلم بالمعتدين ] أى المجاوزين الحد في الإعتداء ، فيحللون ويحرمون بدون دليل شرعي من كتاب أو سنة ، وفيه وعيد شديد ، وتهديد أكيد ، لمن اعتدى على حدود الله
[ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ] أى اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها ، وسرها وعلانيتها ، قال مجاهد : هي المعصية في السر والعلانية ، وقال السدي : ظاهره الزنى مع البغايا وباطنه الزنى مع الصدائق والأخدان
[ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ] أى يكسبون الإثم والمعاصي ويأتون ما حرم الله ، سيلقون في الآخرة جزاء ما كانوا يكتسبون
[ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ] أى لا تأكلوا أيها المؤمنون مما ذبح لغير الله ، أو ذكر اسم غير الله عليه ، كالذي يذبح للأوثان
[ وإنه لفسق ] أى لأن الأكل منه لمعصية وخروج عن طاعة الله
[ وأن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ] أى وإن الشياطين ليوسوسون إلى المشركين أوليائهم في الضلال ، لمجادلة المؤمنين بالباطل ، في قولهم : أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله ؟ يعني الميتة
[ وأن أطعتموهم إنكم لمشركون ] أى وإن أطعتم هؤلاء المشركين في استحلال الحرام ، وساعدتموهم على أباطيلهم ، إنكم إذا مثلهم ، قال الزمخشري : لأن من اتبع غير الله تعالى في دينه ، فقد أشرك به ، ومن حق ذي البصيرة في دينه ألا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان ، للتشديد العظيم
[ أو من كان ميتا فأحييناه ] قال أبو حيان : لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين ، مثل تعالى بأن شبه المؤمن بالحي الذي له نور يتصرف به كيفما سلك ، والكافر بالمتخبط في الظلمات المستقر فيها ، ليظهر الفرق بين الفريقين ) والمعنى : أو من كان بمنزلة الميت ، أعمى القلب بالكفر فأحيا الله قلبه بالإيمان ، وأنقذه من الضلالة بالقرآن
[ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ] أى وجعلنا له مع تلك الهداية النور العظيم الوضاء ، الذي يتأمل به الأشياء ، فيميز به بين الحق والباطل
[ كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ] أى كمن هو يتخبط في ظلمات الكفر والضلالة ، لا يعرف المنقذ ولا المخلص ؟ قال البيضاوي : وهو مثل لمن بقي في الضلالة لا يفارقها بحال
[ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ] أى وكما بقي هذا في الظلمات يتخبط فيها ، كذلك حسنا للكافرين وزينا لهم ، ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي
[ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ] أى وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها ، كذلك جعلنا في كل بلدة مجرميها من الأكابر والعظماء ليفسدوا فيها ، قال ابن الجوزي : وإنما جعل الأكابر فساق كل قرية ، لأنهم أقرب إلى الكفر ، بما أعطوا من الرياسة والسعة
[ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ] أى وما يدرون أن وبال هذا المكر يحيق بهم
[ وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ] أى وإذا جاءت هؤلاء المشركين حجة قاطعة ، وبرهان ساطع ، على صدق محمد (ص) قالوا لن نصدق برسالته ، حتى نعطى من المعجزات مثل ما أعطي رسل الله ، قال في البحر : وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء ، ولو كانوا موقنين غير معاندين لأتبعوا رسل الله تعالى ، وروي أن أبا جهل قال : زاحمنا بنى عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبى يوحى إليه ! والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا ، إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه ! ! فنزلت الآية
[ الله أعلم حيث يجعل رسالته ] أي الله أعلم من هو أهل للرسالة فيضعها فيه ، وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو (محمد) ، دون أكابر مكة (كأبى جهل ) ، والوليد بن المغيرة
[ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ] أى سيصيب هؤلاء المجرمين الذل والهوان ، والعذاب الشديد يوم القيامة ، بسبب استكبارهم ومكرهم المستمر ، قال في البحر : وقدم الصغار على العذاب ، لأنهم تمردوا عن اتباع الرسول وتكبروا ، طلبا للعز والكرامة ، فقوبلوا بالهوان والذل أولا ، ثم بالعقاب الشديد ثانيا )
[ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ] أى من شاء الله هدايته ، قذف في قلبه نورا فينفسح له وينشرح ، وذاك علامة الهداية للإسلام ، قال ابن عباس : معناه يوسع قلبه للتوحيد والإيمان ، وحين سئل رسول الله (ص) عن هذه الآية قال : (إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، وا لاستعداد للموت قبل نزوله )
[ ومن يرد أن يضله ] أى ومن يرد شقاوته وإضلاله
[ يجعل صدره ضيقا حرجا ] أى يجعل صدره ضيقا شديد الضيق ، لا يتسع لشيء من الهدى ، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان ، قال عطاء : ليس للخير فيه منفذ ((هذا ما فسره به الإمام الطبري وجمهور المفسرين ، أن المراد بقوله تعالى {كأنما يصعد في السماء} أي كمن يحاول الصعود الى السماء وهو غير مستطيع له . . والتعبير القراني المعجز ، يشير إلى (حقيقة علمية) رائعة ، لم يكن يعرفها الناس قبل عصر اكتشاف الطيران وعصر الفضاء ، فقد اتضح للعلماء تناقص (الاكسجين ) وقلة (الضغط ) كلما صعد الإنسان إلى أجواء الفضاء ، فكلما ارتفع الشخص إلى الأعلى ، يشعر بعوارض الاختناق ، لقلة الأكسجين وقلة الضغط ، ويشعر بأن روحه تكاد تزهق ، وتنفجر رئتاه ، والعلاقة واضحة بين الإنسان والارتقاء في السماء ، فالصدر يحتوي على الرئتين عضوي استخلاص الأكسجين ، وحتى لا تنفجر الرئتان ، يحتاج رائد الفضاء إلى سترة تكلفتها مليونا دولار ، ليبقى في قيد الحياة ، وبذلك تظهر هذه الحقيقة العلمية ، التي لم يكن يعرفها الإنسان قبل غزو الفضاء ، والتي أخبر عنها القران الكريم في هذا التشبيه الرائع ! !))
[ كانما يصعد في السماء ] أي كأنما يحاول الصعود إلى السماء ، ويزاول أمرا غير ممكن ، قال ابن جرير : وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر ، في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه ، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء ، وعجزه عنه ، لأنه ليس في وسعه
[ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ] أى مثل جعل صدر الكافر شديد الضيق ، كذلك يلقي الله العذاب والخذلان ، على الذين لا يؤمنون بآياته ، قال مجاهد : الرجس كل ما لا خير فيه ، وقال الزجاج : الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة
[ وهذا صراط ربك مستقيما ] أي وهذا الدين الذي أنت عليه يا محمد ، هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه فاستمسك به
[ قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ] أى بينا ووضحنا الآيات والبراهين لقوم يتدبرون بعقولهم
[ لهم دار السلام عند ربهم ] أى لهؤلاء المؤمنين الذين يعتبرون وينتفعون بالآيات (دار السلام ) ، أى السلامة من المكاره وهي الجنة في نزل الله وضيافته
[ وهو وليهم بما كانوا يعملون ] أى هو تعالى حافظهم وناصرهم ومؤيدهم ، جزاء لإعمالهم الصالحة ، قال ابن كثير : وإنما وصف تعالى الجنة هنا بدار السلام ، لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم ، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم ، فكما سلموا من آفات الضلال أفضوا إلى دار السلام .
البلاغه :
1 - [ ولو شاء ربك ] التعرض لوصف الربوبية والإضافة إلى ضميره عليه السلام [ ربك ] لتشريف مقامه ، وللمبالغة في اللطف في التسلية.
2 - [ فلا تكونن من الممترين ] الخطاب للرسول (ص) على طريق التهييج والإلهاب .
3 - [ وتمت كلمة ربك ] أى تم كلامه ووحيه ، أطلق الجزء وأراد الكل فهو مجاز مرسل .
4 - [ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ] بين لفظ [ ظاهر ] و[ باطن ] طباق .
5 - [ أو من كان ميتا فأحييناه ] الموت والحياة ، والنور والظلمة ، من باب الاستعارة ، فقد استعار الموت للكفر ، والحياة للإيمان ، وكذلك النور والظلمات للهدى والضلال .
6 - [ يشرح صدره للإسلام ] الشرح كناية عن قبول النفس للحق والهدى الذي جاء به الرسول (ص) وبين لفظ الشرح والضيق طباق وهو من المحسنات البديعية .
فائدة :
الحكم أبلغ من الحاكم وأدل على الرسوخ ، لأنه لا يطلق إلا على العادل ، وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم ، فالله هو الحكم العدل .
تنبيه :
قال الرازي : دلت هذه الآية [ وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ] على أن القول في الدين مجرد التقليد حرام ، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة ، والآية دلت على أن ذلك حرام .
قال الله تعالى : [ ويوم يحشرهم جميعا با معشر الجن قد استكثرثم من الإنس . . إلى . . قد ضلوا وما كانوا مهتدين ] من آية (128 ) إلى نهاية آية ( 140 ) .
المناسبة :
لما ذكر سبحانه أن البشر فريقان : مهتد ، وضال ، وذكر أن منهم من شرح الله صدره ، وأنار قلبه فآمن واهتدى ، ومنهم من اتبع الهوى وسار بقيادة الشيطان ، فضل وغوى ، ذكر هنا أنه سيحشر الخلائق جميعا يوم القيامة للحساب ، لينال كل جزاءه العادل ، على ما قدم في هذه الحياة .
اللغة :
[ مثواكم ] مأواكم يقال : ثوى بالمكان إذا أقام فيه
[ يقصون ] يحكون ، يقال : قص الخبر يقصه قصا أى حكاه
[ ذرأ ] خلق
[ الحرث ] الزرع
[ ليردوهم ] الإرداء : الإهلاك يقال أراده يرديه أي أهلكه
[ حجر ] الحجر : الحرام وأصله المنع ، يقال حجره أى منعه والحخر : العقل سمي به لأنه يمنع عن القبائح قال تعالى :
[ هل في ذلك قسم لذى حجر ]
[ سفها ] حماقة وجهالة ، والسفه : خفة العقل .
التفسير :
[ ويوم يحشرهم جميعا ] أى اذكر يوم يجمع الله الثقلين : الإنس والجن ، للحساب والجزاء قابلا
[ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ] أى استكثرثم من إضلالهم وإغوابهم ، قال ابن عباس : أضللتم منهم كثيرا ، وهذا بطريق التوبيخ والتقريع
[ وقال أوليأوهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض ] أى وقال الذين أطاعوهم من الإنس : ربنا انتفع بعضنا ببعض ، انتفع الإنس بالجن ، بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها ، وانتفع الجن بالإنس ، بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم
[ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ] أى وصلنا إلى الموت والقبر ، ووافينا الحساب ، وهذا منهم اعتذار واعتراف بما كان منهم ، من طاعة الشياطين واتباع الهوى ، وتحسر على حالهم
[ قال النار مثواكم ] أى قال تعالى ردا عليهم : النار موضع مقامكم وهي منزلكم
[ خالدين فيها إلا ما شاء الله ] أى ماكثين في النار في حال خلود دائم ، إلا الزمان الذي شاء الله أن لا يخلدوا فيها ، قال الطبري : هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وقال الزمخشري : يخلدون في عذاب النار الأبد كله ، إلا ما شاء الله أى إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار ، إلى عذاب الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون واديا من الزمهرير ، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم
[ إن ربك حكيم عليم ] أى حكيم في أفعاله ، عليم بأعمال عباده
[ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ] أى كما متعنا الإنس والجن بعضهم ببعض ، نسلط بعض الظالمين على بعض ، بسبب كسبهم للمعاصي والذنوب ، قال القرطبي : وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه ، سلط الله عليه ظالما آخر ، قال ابن عباس : إذا رضي الله عن قوم ، ولى أمرهم خيارهم ، وإذا سخط الله على قوم ، ولى أمرهم شرارهم ، وعن مالك بن دينار قال : قرأت في بعض كتب الحكمة أن الله تعالى يقول : " أني أنا الله مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فمن أطاعنى جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصانى جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ، ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم "
[ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى ] هذا النداء أيضا يوم القيامة ، والاستفهام للتوبيخ والتقريع أى ألم تأتكم الرسل يتلون عليكم آيات ربكم ؟
[ وينذرونكم لقاء يومكم هذا ] أى يخوفونكم عذاب هذا اليوم الشديد ؟
[ قالوا شهدنا على أنفسنا ] لم يجدوا إلا الاعتراف فقالوا : بلى شهدنا على أنفسنا ، بأن رسلك قد أتتنا وأنذرتنا لقاء يومنا هذا ، قال ابن عطية : وهذا إقرار منهم بالكفر ، واعتراف على أنفسهم بالتقصير ، كقولهم [ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا ]
[ وغرتهم الحياة الدنيا ] أى خدعتهم الدنيا بنعمها وتفرجها الكاذب
[ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ] أى اعترفوا بكفرهم ، قال البيضاوي : وهذا ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم ، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيا ولذاتها الفانية ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية ، حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا بالشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد ، تحذيرا للسامعين من مثل حالهم
[ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ] أى إنما فعلنا هذا بهم من إرسال الرسل إليهم ، لإنذارهم سوء العاقبة ، لأن ربك عادل لم يكن ليهلك قوما حتى يبعث إليهم رسولا ، قال الطبري : أى إنما أرسلنا الرسل يا محمد يقصون عليهم آياتي ، وينذرونهم لقاء معادهم ، من أجل أن ربك لم يكن ليهلكهم ، دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر
[ ولكل درجات مما عملوا ] أى ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته ، منازل ومراتب من عمله ، يلقاها في آخرته إن كان خيرا فخير ، وإن كان شرا فشر ، قال ابن الجوزي : وإنما سميت درجات ، لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج
[ وما ربك بغافل عما يعملون ] أى ليس الله غافلا ولا ناسيا لأعمال عباده ، وفي ذلك تهديد ووعيد
[ وربك الغنى ] أى هو جل وعلا المستغني عن الخلق وعبادتهم ، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية
[ ذو الرحمة ] أى ذو التفضل التام ، قال ابن عباس : ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته ، وقال غيره ؟ بجميع الخلق ، ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين ، قال ابو السعود : وفيه تنبيه على أن ما سلف ذكره من الإرسال ، ليس لنفعه بل لترحمه على العباد
[ إن يشأ يذهبكم ] أى لو شاء لأهلككم أيها العصاة بعذاب الاستئصال
[ ويستخلف من بعدكم ما يشاء ] أى وأتى بخلق آخر أمثل منكم وأطوع
[ كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ] أى كما خلقكم وابتدأكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم ، قال أبو حيان : وتضمنت الآية التحذير من بطش الله في التعجيل بالاهلاك
[ إن ما توعدون لآت ] أى ما توعدونه من مجيء الساعة والحشر ، لواقع لا محالة
[ وما أنتم بمعجزين ] أى لا تخرجون عن قدرتنا وعقابنا ، رإن ركبتم في الهرب متن كل صعب وذلول
[ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ] أى قل لهم يا محمد : يا قوم أثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي ، واعملوا ما أنتم عاملون ، والأمر هنا للتهديد كقوله [ اعملوا ما شئتم ]
[ أني عامل ] أى عامل ما أمرنى به ربي ، من الثبات على دينه
[ فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ] أى فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ؟ أنحن أم أنتم ؟
[ أنه لا يفلح الظالمون ] أى لا ينجح ولا يفوز بمطلوبه من كان ظالما قال الزمخشري : فى الآية طريق من الإنذار لطيف المسلك ، فيه إنصاف في المقال وأدب حسن ، مع تضمن شدة الوعيد ، والوثوق بأن المنذر محق ، والمنذر مبطل
[ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ] أى جعل مشركو قريش لله تعالى ، منا خلق من الزرع والأنعام ، نصيبا ينفقونه على الفقراء ، ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها ، قال ابن كثير : هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعا وكفرا وشركا ، وجعلوا لله شركاء وهو خالق كل شيء سبحانه [ وجعلوا لله مما ذرأ ] أى خلق وبرا من الزرع والثمار والأنعام جزءا وقسما )
[ فقالوا هذا لله بزعمهم ] أى قالوا : هذا نصيب الله بزعمهم أي بدعواهم وقولهم ، من غير دليل ولا شرع ، قال في التسهيل : وأكثر ما يقال الزعم في الكذب
[ وهذا لشركائنا ] أى وهذا النصيب لآلهتنا وأصنامنا ، قال ابن عباس : أن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا ، أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا ، وللوثن جزءا ، فما كان من حرث أو ثمرة ، أو شيء من نصيب الأوثان ، حفظوه وأحصوه ، وإن سقط منه شيء فيما سمي لله ردوه إلى ما جعلوه للوثن ، وقالوا : إن الله غنى والأصنام أحوج) ولهذا قال :
[ فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ] أى ما كان للأصنام فلا يصل إلى الله منه شيء
[ وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ] وما كان من نصيب الله ، فهو يصل إلى أصنامهم ، قال مجاهد : كانوا يسمون جزءا من الحرث لله وجزءا لشركائهم وأوثانهم ، فما ذهبت به الريح من نصيب الله إلى أوثانهم تركوه ، وما ذهب من نصيب أوثانهم إلى نصيب الله ردوه ، وكانوا إذا أصابتهم سنة " قحط " أكلوا نصيب الله ، وتحاموا نصيب شركائهم
[ ساء ما يحكمون ] أى بئس هذا الحكم الجائر حكمهم
[ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ] أى مثل ذلك التزيين ، في قسمة القربان بين الله وبين آلهتهم ، زين شياطينهم لهم قتل أولادهم ، بالواد أو بنحرهم لآلهتهم ، قال الزمخشري : كان الرجل في الجاهلية يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم ، كما حلف عبد المطلب )
[ ليردوهم ] أي ليهلكوهم بالإغواء
[ وليلبسوا عليهم دينهم ] أى وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام
[ ولو شاء الله ما فعلوه ] أى لو شاء الله ما فعلوا ذلك القبيح
[ فذرهم وما يفترون ] أى دعهم وما يختلقونه من الإفك على الله ، وهذا تهديد ووعيد
[ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ] هذه حكاية عن بعض قبائحهم وجرائمهم أيضا ، أى قال المشركون : هذه أنعام وزروع أفردناها لآلهتنا ، حرام ممنوعة على غيرهم
[ لا يطعمها إلا من نشاء ] أى من خدمة الأوثان وغيرهم
[ بزعمهم ] أى بزعمهم الباطل ، من غير حجة ولا برهان
[ وأنعام حرمت ظهورها ] أ ي لا تركب كالبحار والسوائب والحوامي
[ وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ] أى عند الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام
[ افتراء عليه ] أى كذبا واختلاقا على الله
[ سيجزيهم بما كانوا يفترون ] أى سيجزيهم على ذلك الافتراء ، وهو تهديد شديد ووعيد
[ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ] هذا إشارة إلى نوع آخر من أنواع قبائحهم ، أى قالوا ما في بطون هذه البحار والسوائب حلال لذكورنا خاصة
[ ومحرم على أزواجنا ] أى لا تأكل منه الإناث
[ وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ] أى وإن كان هذا المولود ميتة اشترك فيه الذكور والإناث
[ سيجزيهم وصفهم ] أى سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله ، في التحليل والتحريم
[ أنه حكيم عليم ] أى حكيم في صنعه عليم بخلقه
[ قد خسر الذين قتلوا أولادهم ] أى والله لقد خسر هؤلاء السفهاء الذين قتلوا أولادهم ، قال الزمخشري : نزلت في ربيعة ومضر والعرب الذين كانوا يئدون بناتهم ، مخافة السبي أوالفقر
[ سفها بغير علم ] أي جهالة وسفاهة لخفة عقلهم ، وجهلهم بأن الله هو الرازق لهم ولأولادهم
[ وحرموا ما رزقهم الله ] أي حرموا على أنفسهم (البحيرة والسائبة) وشبهها
[ افتراء على الله ] أى كذبا واختلاقا على الله
[ قد ضلوا وما كانوا مهتدين ] أى لقد ضلوا عن الطريق المستقيم بصنيعهم القبيح ، وما كانوا من الأصل مهتدين لسوء سيرتهم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام [ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ] .
البلاغة :
1 - [ قد استكثرتم من الإنس ] أى أفرطتم في إضلال وإغواء الإنس ، ففيه إيجاز بالحذف ومثله [ استمتع بعضنا ببعض ] أى استمتع بعض الإنس ببعض الجن ، وبعض الجن ببعض الإنس .
2 - [ النار مثواكم ] التعريف وتقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر ، والأصل مثواكم النار .
3 - [ ألم يأتكم رسل ] الاستفهام للتوبيخ والتقريع .
4 - [ ولكل ] أى لكل من العاملين فالتنوين عوض عن محذوف .
5 - [ إن ما توعدون لآت ] صيغة الاستقبال [ توعدون ] للدلالة على الاستمرار التجددي ، ودخول إن واللام على الجملة للتأكيد ، لأن المخاطبين منكرون للبعث فلذا أكد الخبر بمؤكدين .
6 - [ ما رزقهم الله افتراء على الله ] إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار ، لإظهار كمال عتوهم وضلالهم .
الفوائد :
الأولى : قال السيوطي في الإكليل : قوله تعالى : [ وكذلك نؤتي بعض الظالمين بعضا ] الآية في معنى حديث " كما تكونون يولى عليكم ، وقال الفضيل بن عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجبا ، لأن الله قال [ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا . . . ] الآية .
الثانية : الجمهور على أن الرسل من الإنس ولم يكن من الجن رسول وقوله تعالى : [ ألم تأتكم رسل منكم ] هو من باب التغليب كقوله [ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ] وإنما يخرجان من البحر المالح دون العذب . الثالثة : ذكر القرطبي في (تفسيره أن رجلا من أصحاب النبي (ص) كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله (ص) فقال له الرسول : ما لك تكون محزونا ؟ فقال : يا رسول الله إني أذنبت في الجاهلية ذنبا فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت ! فقال له : أخبرني عن ذنبك ؟ فقال يا رسول الله : أني كنت من الذين يقتلون بناتهم ، فولدت لي بنت فتشفعت إلى امرأتي أن أتركها ، فتركتها حتى كبرت وأدركت ، وصارت من أجمل النساء ، فخطبوها فدخلتني الحمية ، ولم يحتمل قلبي أن أزوجها ، أو أتركها في البيت بغير زوج ، فقلت للمرأة : إني أريد أن أذهب لزيارة أقربائى فأبعثها معي ، فسرت بذلك وزينتها بالحلى والثياب ، وأخذت على المواثيق بألا أخونها ، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية بأنى أريد أن القيها في البئر ، فالتزمتني وجعلت تبكى فرحمتها ، ثم نظرت في البئر فدخلت على الحمية ، حتى غلبني الشيطان قألقيتها قي البئر منكوسة ، ومكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت ، فبكى رسول الله (ص) وأصحابه وقال : لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك ) .
قال الله تعالى : [ وهو الذي أنشأ جنات معروشات . . إلى . . وهم بربهم يعدلون ] من آية ( 141 ) إلى نهاية آية ( 150) .
المناسبة :
لما أخبر تعالى عن المشركين أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله ، وحكى طرفا من قبائحهم وجرائمهم ، ذكر تعالى هنا ما امتن به عليهم من الرزق ، الذي تصرفوا فيه بغير إذنه تعالى ، افتراء منهم عليه واختلاقا ، ثم أعقبه باحتجاجهم على الشرك وعدم الإيمان بالقضاء والقدر ، وهذا أيضا من جملة الكذب والبهتان والافتراء على الله .
اللغة :
[ ممروشات ] مرفوعات على ما يحملها من العيدان
[ حصاده ] الحصاد : جمع الثمر كالجذاذ
[ حمولة ] الحمولة : الإبل التي تحمل الأبقال على ظهورها
[ فرشا ] الفرشى : الصغار التي لا تصلح للحمل ، كالفصلان والعجاجيل ، قال الزجاج : الفرشى صغار الإبل ، قال الشاعر : أورثنى حمولة وفرشا أمشها في كل يوم مشا
[ الحوايا ] قال الواحدي : هى المباعر والمصارين واحدتها حاوية وحوية وقيل : الحوايا الأمعاء التي عليها الشحوم ، سميت حوايا لأن البطن يحويها
[ هلم ] هاتوا
[ يعدلون ] يشركون به .
التفسير :
[ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ] أى هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم ، لتعبدوه وحده ، فخلق لكم بساتين من الكروم ، منها مرفوعات على عيدان ، ومنها متروكات على وجه الأرض لم تعرش
[ والنخل والزرع مختلفا أكله ] أى وأنشأ لكم شجر النخيل المثمر ، بما هو فاكهة وقوت ، وأنواع الزرع المحصل لأنواع القوت ، مختلفا ثمره وحبه ، في اللون والطعم والحجم والرائحة
[ والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ] أى متشابها في اللون والشكل ، وغير متشابه في الطعم
[ كلوا من ثمره إذا أثمر ] أى كلوا أيها الناس من ثمر كل واحد مما ذكر ، إذا ادرك من رطبه وعنبه
[ وآتوا حقه يوم حصاده ] أى اعطوا الفقير والمسكين من ثمره يوم الحصاد ، ما تجود به نفوسكم وقال ابن عباس : يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله
[ ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ] أى ولا تسرفوا في الأكل ، لما فيه من مضرة العقل والبدن ، قال الطبري : المختار قول عطاء أنه نهى عن الإسراف في كل شيء
[ ومن الأنعام حمولة وفرشا ] أى وخلق لكم من الأنعام ما يحمل الأثقال ، وما يفرش للذبح " أي يضجع " قال ابن اسلم : الحمولة ما يركبون ، والفرش ما يأكلون وتحلبون
[ كلوا مما رزقكم الله ] أى كلوا من الثمار والزروع والأنعام ، فقد جعلها الله لكم رزقا
[ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ] أى طريقه وأوامره في التحليل والتحريم ، كفعل أهل الجاهلية
[ إنه لكم عدو مبين ] أى إن الشيطان ظاهر العداوة للإنسان ، فاحذروا كيده
[ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ] أى وأنشأ لكم من الأنعام ثمانية أنواع أحل لكم أكلها ، من الضأن ذكرا وأنثى ، ومن المعز ذكرا وأنثى ، قال القرطبي : يعني ثمانية أفراد ، وكل فرد عند العرب يحتاج إلى آخر يسمى زوجا فيقال للذكر : زوج وللأنثى زوج ويراد بالزوجين من الضأن : (الكبش والنعجة) ، ومن المعز : (التيس والعنز)
[ قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ] ؟ هذا إنكار لما كانوا يفعلونه من تحريم ما أحل الله أى قل لهم يا أيها الرسول على وجه التوبيخ والزجر : الذكرين من الضأن والمعز حرم الله عليكم أيها المشركون أم الأنثيين منهما ؟
[ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ] أى أو ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى ؟
[ نبئونى بعلم إن كنتم صادقين ] تعجيز وتوبيخ أى أخبروني عن الله بأمر معلوم ، لا بإفتراء ولا بترخص ، إن كنتم ضادقبن في نسبة ذلك التحريم إلى الله
[ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ] أى وأنشأ لكم من الإبل اثنين هما (الجمل والناقة) ومن البقر اثنين هما (الجاموس والبقرة)
[ قل الذكرين حرم أم الانثيين أما اشتملت عليه أرحام الانثيين ] ؟ كرره هنا مبالغة في التقريع والتوبيخ ، قال ابو السعود : والمقصود إنكار أن الله سبحائه حرم عليهم شيئا من الأنواع الأربعة ، وإظهار كذبهم في ذلك فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة ، وإناثها تارة ، وأولادها تارة أخرى
[ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ] زيادة في التوبيخ أى هل كنتم حاضرين حين وصاكم الله بهذا التحريم ؟ وهذا من باب التهكم
[ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ] أى لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فنسب إليه تحريم ما لم يحرم بغير دليل! ولا برهان
[ أن الله لا يهدي القوم الظالمين ] عموم في كل ظالم . . ثم أمر تعالى رسوله (ص) بأن يبين لهم ما حرمه الله عليهم فقال
[ قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس ] أى قل يا محمد لكفار مكة : لا أجد فيما أوحاه الله إلي من القرآن ، شيئا محرما على أى إنسان ، إلا أن يكون ذلك الطعام ميتة ، أو دما سائلا مصبوبا ، أو يكون لحم خنزير ، فإنه قذر ونجس ، لتعوده أكل النجاسات
[ أو فسقا أهل لغير الله به ] أى أو يكون المذبوح فسقا ذبح على اسم غير الله ، كالمذبوح على النصب ، سمى فسقا مبالغة كأنه نفس الفسق ، لأنه ذبح على اسم الأصنام
[ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ] أى من اصابته الضرورة واضطرته إلى أكل شيء من المحرمات ، فلا إثم عليه ، ان كان غير باغ اي غير قاصد التلذذ بأكلها بدون ضرورة ، ولا عاد أى مجاوز قدر الضرورة التى تدفع عنه الهلاك ، فالله غفور رحيم بالعباد . . ثم بين تعالى أن ما حرمه على إليهود إنما كان بسبب بغيهم وعصيانهم فقال
[ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ] أى وعلى إليه ود خاصة حرمنا عليهم كل ذي ظفر ، قال ابن عباس : هي ذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة أى مفتوحة ، كالبط والأوز
[ ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ] أى وحرمنا عليهم أكل شحوم البقر وشحوم الغنم
[ إلا ما حملت ظهورهما ] أى إلا الشحم الذي علق بالظهر منهما
[ أو الحوايا ] أى الأمعاء والمصارين
[ أو ما اختلط بعظم ] كشحم الألية ، والمعنى : أن الشحم الذي تعلق بالظهور أو احتوت عليه المصارين ، أو اختلط بعظم كشحم الألية جائز لهم
[ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ] أى ذلك التحريم بسبب ظلمهم وعدوانهم الذي سبق ، من قتل الأنبياء ، وأكل الربا ، واستحلال أموال الناس بالباطل ، وإنا لصادقون فيما قصصنا عليك يا محمد ، وفي ذلك تعريض بكذب من حرم ما لم يحرم الله ، والتعريض بكذب اليهود
[ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ] أى فإن كذبك يا محمد هؤلاء اليهود ، فيما جئت به من بيان التحريم ، فقل متعجبا من حالهم : ربكم ذو رحمة واسعة ، حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة إجرامكم ، قال فى البحر : وهذا كما تقول عند رؤية معصية عظيمة : ما أحلم الله تعالى! وأنت تريد ما أحلمه لإمهاله العاصي . . ثم أعقب وصفه تعالى بالرحمة الواسعة بالوعيد الشديد فقال
[ ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ] أى لا تغتروا بسعة رحمته ، فإنه لا يرد عذابه وسطوته ، عمن اكتسبوا الذنوب وإجترحوا السيئات ، فهو مع رحمته ذو بأس شديد ، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب ، حتى لا يقنط المذنب من الرحمة ، ولا يغتر العاصي بحلم الله .
[ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آبأونا ولا حرمنا من شيء ] أى سيقول مشركو العرب : لو أراد الله ما كفرنا ولا أشركنا ، لا نحن ولا آبأونا ، يريدون أن شركهم وتحريمهم لما حرموا كان بمشيئة الله ، ولو شاء الله ألا يفعلوا ذلك ما فعلوه ، فاحتجوا على ذلك بإرادة الله ، كما يقول الواقع في معصية إذا طلب منه الإقلاع عنها : هذا قدر الله لا مهرب ولا مفر منه ، ولا حجة في هذا لأنهم مكلفون مأمورون بفعل الخير وترك القييح ، ولكنها نزعة جبرية يحتج بها السفهاء عندما تدمغهم الحجة ، قال تعالى في الرد عليهم
[ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ] أى كذلك كذب من سبقهم من الأمم ، حتى أنزلنا عليهم العذاب
[ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ] استفهام إنكاري يقصد به التهكم ، أى قل لهم : هل عندكم حجة أو برهان ، على صدق قولكم فتظهروه لنا
[ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ] أى ما تتبعون في ذلك إلا الظنون والأوهام ، وما أنتم في الحقيقة إلا تكذبون على الله عز وجل
[ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ] أى قل لهم إن لم تكن لكم حجة ، فلله الحجة البينة الواضحة ، التي بلغت غاية الظهور والإقناع ، فلو شاء لهداكم إلى الايمان أجمعين . . بين تعالى أنه ترك للخلق أمر الاختيار ، في الإيمان والكفر ، ليتم التكليف الإلهي! ، الذي ينبني عليه أمر الجزاء بالثواب ، أو العقاب ، ولهذا ترك للإنسان حرية الاختيار [ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ] ثم طالبهم تعالى بالبرهان على دعواهم ، فقال سبحانه :
[ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ] أى قل لهم يا محمد : احضروا لي من يشهد لكم على صحة ما تزعمون ، أن الله تعالى حرم هذه الأشياء التي تدعونها من (البحيرة والسائبة) وغيرهما
[ فإن شهدوا فلا تشهد معهم ] أى فإن حضروا وكذبوا في شهادتهم وزوروا ، فلا تشهد بمثل شهادتهم ولا تصدقهم فإنه كذب بحت
[ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ] أى ولا تتبع أهواء المكذبين بآيات الرحمن ، الذين لا يصدقون بالآخرة
[ وهم بربهم يعدلون ] أى وهم يشركون بالله غيره ، فيعبدون الأوثان .
البلاغة :
1 - [ حمولة وفرشا ] بينهما طباق لأن الحمولة الكبار الصالحة للحمل ، والفرش الصغار الدانية من الأرض كأنها فرش .
2 - [ خطوات الشيطان ] هذا من لطيف الاستعارة وهي أبلغ عبارة للتحذير من طاعة الشيطان والسير في ركابه .
3 - [ غفور رحيم ] من صيغ المبالغة أى مبالغ في المغفرة والرحمة .
4 - [ ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمبن ] جاءت الأولى جملة أسمية لأنها أبلغ في الاخبار من الفعلية ، فناسبت وصفه تعالى بالرحمة الواسعة ، وجاءت الجملة الثانية فعلية [ ولا يرد ] لئلا يتعادل الإخبار عن الوصفين ، وباب الرحمة أوسع أفاده في البحر .
فائدة :
في قوله تعالى [ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ] إيذان بأن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى ، وأن الله جل وعلا هو المشرع للأحكام والرسول مبلغ عن الله ذلك التشريع ، لقوله سبحانه [ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ] .
قال الله تعالى : [ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم . . إلى . . بأنه لغفور رحيم ] آية (151 ) إلى الآية ( 165 ) نهاية السورة الكريمة .
المناسبة :
لما ذكر تعالى ما حرمه الكفار إفتراء عليه ، وذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان ، ذكر هنا ما حرمه تعالى عليهم حقيقة من الأمور الضارة ، وختمها بذكر الوصايا العشر التي اتفقت عليها الشرائع السماوية ، وبها سعادة البشرية ، لأنها جامعة لكل فنون الصلاح والنجاح .
اللغة :
[ أتل ] أقرا وأقص
[ إملاق ] فقر يقال : أملق الرجل إذا افتقر
[ أشده ] قوته وهو بلوغ سن النكاح والرشد ، والأشد جمع لا واحد له
[ بالقسط ] بالعدل بلا بخس ولا نقصان
[ السبل ] جمع سبيل وهي الطريق
[ شيعا ] فرقا وأحزابا جمع شيعة ، وهي الفرقة تتبغ وتتعصب لمذهبها
[ قيما ] مستقيما لا عوج فيه
[ نسكي ] النسك جمع نسيكة وهي الذبيحة ، وقال الزجاج : عبادقي ، ومنه الناسك الذي يتقرب الى الله بالعبادة.
التفسير :
[ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ] أى قل يا أيها الرسول لقومك : تعالوا أقرا الذي حرمه ربكم عليكم باليقين ، لا بالظن والتخمين
[ ألا تشركوا به شيئا ] أى لا تعبدوا معه غيره
[ وبالوالدين إحسانا ] أى وأحسنوا إلى الوالدين إحسانا ، وذكر ضمن المحرمات ، لأن الأمر بالشىء نهيى عن ضده فكأنه قال : ولا تسيئوا إلى الوالدين ، قال ابو السعود : والسر في ذلك المبالغة والدلالة على إن ترك الإساءة إليهما ، غير كاف في قضاء حقوقهما
[ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ] أى ولا تقتلوا أولادكم خشية الفقر ، قال ابن الجوزي : المراد دفن البنات أحياء من خوف الفقر
[ نحن نرزقكم وإياهم ] أي رزقكم ورزقهم علينا ، فإن الله هو الرزاق للعباد
[ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ] أى لا تقربوا المنكرات الكبائر ، علانيتها وسرها ، قال ابن عباس : كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسا في السر ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرمه الله في السر والعلانية
[ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ] أى لا تقتلوا النفس البريئة التى حرم الله قتلها إلا بموجب ، وقد فسره قول رسول الله (ص) : (لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة)
[ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ] أى ذلكم المذكور ، هو ما أوصاكم تعالى بحفظه ، وأمركم به أمرا مؤكدا ، لعلكم تسترشدون بعقولكم إلى فوائد هذه التكاليف ، ومنافعها في الدين والدنيا ، قال ابو حيان : وفي لفظ [ وصاكم ] من اللطف والرأفة ، وجعلهم أوصياء له تعالى ، ما لا يخفى من الإحسان
[ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده ] أى لا تقربوا مال اليتيم بوجه من الوجوه ، إلا بالخصلة التي هى أنفع له ، حتى يصير بالغا رشيدا ، والنهي عن القرب يعم وجوه التصرف ، لأنه إذا نهي عن أن يقرب المال فالنهي عن أكله أولى وأحرى ، والتي هي أحسن منفعة اليتيم وتثمير ماله ، قال ابن عباس : هو أن يعمل له عملا مصلحا ، فيأكل منه بالمعروف
[ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ] أي بالعدل والتسوية في الأخذ والعطاء
[ لا نكلف نفسا إلا وسعها ] أى لا نكلف أحدا إلا بمقدار طاقته ، بما لا يعجز عنه ، قال البيضاوى : أى إلا ما يسعها ولا يعسر عليها ، وذكره بعد وفاء الكيل ، لأن إيفاء الحق على وجه التمام والكمال عسر ، فعليكم بما فى وسعكم ، وما وراءه معفو عنكم
[ وإذا قلتم فإعدلوا ولو كان ذا قربى ] أى اعدلوا في حكومتكم وشهادتكم ، ولو كان المشهود عليه من ذوي قرابتكم
[ وبعهد الله أوفوا ] اي أوفوا بالعهد إذا عاهدتم ، قال القرطبي : وهذا عام في جميع ما عهده الله إلى عباده ، ويحتمل أن يراد به ما انعقد بين (الناس ) وأضيف إلى (الله ) من حيث أمر بحفظه والوقاء به
[ ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ] أى لعلكم تتعظون
[ وأن هذا صراطي مستقيما فإتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ] أي وبأن هذا ديني المستقيم ، شرعته لكم فتمسكوا به ، ولا تتبعوا الأديان المختلفة والطرق الملتوية ، فتغرقكم وتزيلكم عن سبيل الهدى ، عن ابن مسعود قال : (خط لنا رسول الله ، يوما خطا ، ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه ويساره ، ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ [ وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه . . ] ) الآية
[ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ] كرر الوصية على سبيل التأكيد ، أى لعلكم تتقون النار ، بإمتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، قال ابن عطية : لما كانت المحرمات الأولى لا بقع فيها عاقل جاءت العبارة [ لعلكم تعقلون ] والمحرمات الآخر شهوات وقد يقع فيها من لم يتذكر جاءت العبارة [ لعلكم تذكرون ] ولما كان السير في الجادة المستقيمة يتضمن فعل الفضائل ، ولا بد لها من تقوى الله جاءت العبارة [ لعلكم تتقون ]
[ ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ] أى أعطينا موسى التوراة ، تماما للكرامة والنعمة على من كان محسنا وصالحا ، قال الطبري : أي اتينا موسى الكتاب تماما لنعمتنا عليه ، في قيامه بأمرنا ونهينا ، فان إيتاء موسى الكتاب ، نعمة من الله عليه ، ومنة عظيمة لما سلف منه ، من صالح العمل وحسن الطاعة
[ وتفصيلا لكل شيء ] أى وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين
[ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ] أى وهدى لبني إسرائيل ورحمة عليهم ليصدقوا بلقاء الله ، قال ابن عباس : كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعذاب
[ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ] أى وهذا القرآن الذي أنزلناه على محمد ، كتابى عظيم الشأن ، كثير المنافع ، مشتمل على أنواع الفوائد الدينية والدنيوية
[ فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ] أى تمسكوا به واجعلوه إماما ، واحذروا أن تخالفوه ، لتكونوا راجين للرحمة
[ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين ] أي أنزلناه بهذا الوصف العظيم ، الجامع لخيرات الدنيا والآخرة ، كراهة أن تقولوا يوم القيامة : ما جاءنا كتاب فنتبعه ، وإنما نزلت الكتب المقدسة على اليهود والنصارى ، قال ابن جرير : فقطع الله بإنزاله القرآن على محمد (ص) حجتهم تلك
[ وإن كنا عن دراستهم لغافلين ] أى وقد كنا عن معرفة ما في كتبهم وفراستهم غافلين ، لا نعلم ما فيها لأنها لم تكن بلغتنا
[ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ] أو تقولوا لو أننا أنزل علينا الكتاب ، كما أنزل على هاتين الطائفتين ، لكنا أهدى منهم إلى الحق ، وأسرع إجابة لأمر الرسول ، لمزيد ذكائنا وجدنا في العمل
[ فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ] أي فقد جاءكم من الله ، على لسان محمد (ص) قرآن عظيم ، فيه بيان للحلال والحرام ، وهدى لما في القلوب ، ورحمة من الله لعباده ، قال القرطبي : أى قد زال العذر بمجيء محمد (ص) قال ابن عباس : بينة أى حجة وهو النبي (ص) والقرآن
[ فمن أظلم ممن كذب بآيات الله ] أى من أكفر ممن كذب بالقرآن ولم يؤمن به
[ وصدف عنها ] أى أعرض عن آيات الله ، قال ابو السعود : أى صرف الناس عنها ، فجمع بين الضلال والاضلال
[ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ] وعيد لهم ، أى سنجازي هؤلاء المعرضين عن آيات الله ، وحججه الساطعة ، شديد العقاب ، بسبب إعراضهم عن آيات الله ، وتكذيبهم لرسله
[ هل ينظرون إلا ان تأتيهم الملائكة ] أى ما ينتظر هؤلاء المشركون ، إلا أن تاتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعذيبها ، وهو وقت لا تنفع فيه توبتهم
[ أو يأتى ربك أو يأتى بعض آيات ربك ] قال ابن عباس : أى يأتى أمر ربك فيهم ، بالقتل أو غيره ، وقال الطبري : المراد أن يأتيهم ربك في موقف القيامة للفصل بين خلقه ، أو يأتيهم بعض آيات ربك وهو طلوع الشمس من مغربها
[ يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا ] أى يوم يأتي بعض أشراط الساعة ، وحينئذ لا ينفع الإيمان نفسا كافرة آمنت في ذلك الحين ، ولا نفسا عاصية لم تعمل خيرا ، قال الطبري : أى لا ينفع من كان قبل ذلك مشركا بالله أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية ، لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله ، فحكم إيمانهم كحكم إيمانهم عند قيام الساعة وفي الحدبث الشريف (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل )
[ قل انتظروا إنا منتظرون ] أى انتظروا ما يحل بكم ، وهو أمر تهديد ووعيد
[ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ] أى فزقوا الدين فأصبحوا شيعا وأحزابا ، قال ابن عباس : هم (اليهود والنصارى) فرقوا دين إبراهيم الحنيف
[ لست منهم في شء ] أي أنت يا محمد بريء منهم
[ إنما أمرهم إلى الله ] أى جزاؤهم وعقابهم على الله ، هو الذي يتولى جزاءهم
[ ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ] أى يخبرهم بشنيع فعالهم ، قال الطبري : أى أخبرهم في الآخرة بما كانوا يفعلون ، وأجازي كلا منهم بما كان يفعل
[ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ] أى من جاء يوم القيامة بحسنة واحدة ، جوزي عنها بعشر حسنات أمثالها ، فضلا من الله وكرما ، وهو أقل المضاعفة للحسنات ، فقد تنتهي إلى سبعمائة أو أزيد
[ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ] أى ومن جاء بالسيئة عوقب بمثلها دون مضاعفة
[ وهم لا يظلمون ] أى لا ينقصون من جزائهم شيئا ، وفي الحديث القدسي : (يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر) فالزيادة في الحسنات من باب (الفضل ) والمعاملة بالمثل في السيئات من باب (العدل )
[ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ] أى قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين : إن ربي هداني إلى الطريق القويم ، وأرشدنى إلى الدين الحق دين إبراهيم
[ دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ] أى دينا مستقيما لا عوج فيه ، هو دين الحنيفية السمحة ، الذي جاء به إمام الحنفاء (إبراهيم ) الخليل
[ وما كان من المشركين ] أى وما كان إبراهيم مشركا ، وفيه تعريض بإشراك من خالف دين الإسلام ، لخروجه عن دين إبراهيم
[ قل إن صلاتى ] أى قل يا أيها الرسول : إن صلاتي التي أعبد بها ربي
[ ونسكي ] أى ذبحي (( هذا قول ابن عباس ومجاهد واختاره الطبري ، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالنسك العبادة والأول ارجح أن المراد به الذبائح ، أي أذبح لله ))
[ ومحياى ومماتى ] أى حياتي ووفاتي ، وما أقدمه في هذه الحياة ، من خيرات وطاعات
[ لله رب العالمين ] أي ذلك كله لله خالصا له ، دون ما أشركتم به
[ لا شريك له ] أى لا أعبد غير الله
[ وبذلك أمرت ] أي بإخلاص العبادة لله وحده أمرت
[ وأنا أول المسلمين ] أى أول من أقر وأذعن ، وخضع لله جل وعلا
[ قل أغير الله أبغى ربا ] تقرير وتوبيخ للكفار ، وسببها أنهم دعوه إلى عبادة آلهتهم والمعنى : قل يا محمد : أأطلب ربا غير الله تعالى ؟
[ وهو رب كل شيء ] أى والحال هو خالق ومالك كل شىء ، فكيف يليق أن أتخذ إلها غير الله ؟
[ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ] أى لا تكون جناية نفس من النفوس ، إلا عليها وحدها ، هي تحمل إثم ما اكتسبت
[ ولا تزر وازرة وزر أخرى ] أى لا يحمل أحد ذنب أحد ، ولا يؤاخذ إنسان بجريرة غيره
[ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ] وهذا وعيد وتهديد أي مرجعكم إليه يوم القيامة ، فيجازيكم على أعمالكم ، ويميز بين المحسن والمسيء
[ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ] أى جعلكم خلفا للأمم الماضية والقرون السالفة ، يخلف بعضكم بعضا ، قال الطبري : أي أستخلفكم بعد أن أهلك من كان قبلكم ، من القرون والأمم الخالية ، فجعلكم خلائف منهم في الأرض ، تخلفونهم فيها
[ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ] أى خالف بين أحوالكم في الغنى والفقر ، والعلم والجهل ، والقوة والضعف ، وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد
[ ليبلوكم في ما آتاكم ] أى ليختبر شكركم على ما أعطاكم ، قال ابن الجوزي : أى ليختبركم فيظهر منكم ما يكون به الثواب والعقاب
[ إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ] أى إن ربك سريع العقاب لمن عصاه ، وغفور رحيم لمن أطاعه ، قال في التسهيل : جمع بين الخوف والرجاء وسرعة العقاب ، إما فى الدنيا بتعجيل الأخذ ، أو في الآخرة لأن كل ما هو آت قريب .
البلاغة :
1 - [ ولا تتبعوا السبل ] السبل استعارة عن البدع والضلالات والمذاهب المنحرفة .
2 - [ لا نكلف نفسا ] التنكير لإفادة العموم والشمول .
3 - [ وبعهد الله ] اإضافة للتشريف والتعظيم .
4 - [ يصدفون عن آياتنا ] وضع الظاهر مكان الضمير [ عنها ] لتسجيل شناعة وقباحة طغيانهم .
5 - [ قل انتظروا ] الأمر للتهديد والوعيد .
6 - [ لا ينفع نفسا إيمانها . . ] الآية ، اشتمل هذا الكلام على النوع المعروف من علم البيان باللف وأصل الكلام : يوم يأتى بعض آيات ربك ، لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل (إيمانها بعد) ولا نفسا لم تكسب في إبمانها (خيرا قبل ) ما تكسبه من (الخير بعد) إلا أنه لف الكلامين ، فجعلهما كلاما واحدا ، بلاغة واختصارا وإعجازا ، أفاده صاحب الانتصاف .
7 - بين [ ظهر ] و[ بطن ] طباق وبين [ الحسنة ] و[ السيئة ] طباق كذلك وهو من المحسنات البديعية .
8 - [ ولا تزر وازرة وزر أخرى ] قال الشريف الرضي : ليس هناك على الحقيقة أحمال على الظهور ، وإنما هي أثقال الآثام والذنوب ، فهو تمثيل بطريق الاستعارة اللطيفة.
فائدة :
وحد تعالى [ سبيله ] لأن الحق واحد وجمع [ السبل ] لأن طرق الضلالة كثيرة ومتشعبة .
تنبيه :
قال الحافظ ابن كثير : كثيرا ما يقرن تبارك وتعالى في القرآن بين هاتين الصفتين [ إن ربك سريع العقاب وأنه لغفور رحيم ] كقوله تعالى [ نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابى هو العذاب الأليم ] إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب ، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة ، وأوصاف الجنة ، والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة ، وذكر النار وأنكالها وعذابها ، والقيامة وأهوالها ، وتارة بهما ، لينجع فى كل بحسبه .
|